بعد حرب تشرين التحريرية عام 1973 أقيم مهرجان شعريّ في مدينة دير الزّور، وقد ذكرت في غير زاوية أنّني كنت أحبّ السفر إلى تلك المناطق، كنت أشعر أنّني في بقعة من الأرض والسكان لها خصوصيتها، في اللهجة، وفي اللباس، وفي الغناء المتماهي مع الغناء العراقي، الشجيّ، الحزين، الجميل، وأنزل إلى الأسواق الشعبيّة لأتجوّل فيها وأرى أثواب أهل الريف ذات الألوان الصّارخة، وأستمع إلى جرس اللّهجة المُتداوَلة، وتنتشر في الأسواق الشعبيّة رائحة منتجات مايبيعونه، وترتفع أصوات المسجّلات بذلك الغناء الشجيّ الذي ربّما ابتدأ مع رحلة الانسان، ووعيه أنّه زائر زائل، فأنت بين النشوة وبين الجرح،كما أنّك في عالم بالغ الخصوصيّة، كان في الذاكرة الشاعر الشهيد خالد بشار، فحضوره مازال طريّا، واقترح أحد الشعراء المدعوين أن نذهب لزيارة زوجته في بيت أهلها كنوع من الوفاء، من شعراء أصدقائه، ومواساتها، ذهبنا وأنا أحمل بعض التوجّس النفسي، فعلاقات بيتي بخالد وزوجته كانت علاقة أهل، وكم من ليلة تأخّرنا في السهر، فناموا في بيتي، وكان خالد حيث أقام نشاطا ترافقه زوجته، ولم يكن لهما ولد آنذاك، وكان منفتحا، حضاريّا، ويتمتّع بمزايا تُحبّبه إلى معارفه، وسكن حمص لمدّة سنتين، قد تقلّ أو تزيد، حيث كان يعمل صحفيّا في صحيفة « العروبة»
دخلنا إلى إحدى الغرف، وبعد فترة جاءت زوجتُه، كان واضحا عليها أنّها ليست بيننا، ثمّة شيء يفصلها عنّا، لم تتكلّم، تُكثر من النّظر إلى الأرض، وإذا رفعت رأسها تنظر في الفراغ، ولكنّها، ولعدّة مرّات، كرّرت النّظر في وجهي، ثمّ تلمّ بصرها بطريقة فيها الكثير من إيحاءات الهروب،والتوجّس،بعد عدّة أشهر جاءت هذه الزوجة المنكوبة إلى حمص برفقة أمّها، لتصفية بعض حسابات الديون التي تركها المرحوم خالد في دفتره، وزاروني في البيت، كانت أكثر انفتاحا بدرجة مقبولة، وتكلّمنا كثيرا، وكان ممّا ذكرتْه أنّها ظلّت لفترة طويلة لا تصدّق أنّ (خالد) قد استُشهد، بل هو غائب وسوف يعود، وكانت ترهف السمع فتسمع وقع الخطوات في الشارع، فتُسرع لفتح الباب عسى أن يكون خالد قد عاد، وإذا رُنّ جرس الباب تُسرع لتفتحه عسى أن يكون قد جاء، وبقيت عدّة شهور على هذه الحالة،ذهبتْ إلى رجل كان يدّعي أنّ ثمّة قرابة بينه وبين المرحوم شهيدنا، وكان له مبلغ من المال في ذمّته، وحين سألته عن المبلغ الذي له، و ذَكَره، فقالت له :» خالد ذكر هذا المبلغ في دفتر ديونه، وهو أقلّ ممّا ذكرت بمئتي ليرة سوريّة، فأصرّ على أنّ ما يقوله هو الرقم الصحيح، فدفعت المبلغ وغادرت، ولم تترك شخصا في حمص له قرش واحد في ذمّة شهيدنا المذكور إلاّ ودفعتْه، وكانت تُطلعني على المجريات، فأشعر بغصّة مكبوتة، ولو أُتيح لي في بعض المواقف لبكيت، ولكنّني خشيت أنّ أفجّر أحزانها التي رأيناها ذهولا، وانسحابا من الحياة، في زيارتنا لها، وذات جلسة قالت لي :» كم لك في ذمّة خالد»؟ قلت :»ليس لي أيّ شيء في ذمّته» قالت:» ولكنّه ترك في دفتره مبلغ كذا» قلت: « لقد دفعه لي قبل أن يلتحق بخدمة العلَم»، قالت:» لقد كان خالد دقيقا في هذه الأمور، وكان يُطلعني على كلّ شيء، وهو لم يقل لي ذلك،كما لم يذكر أنّه قد شطب هذا المبلغ»، قلت:» لعلّه نسي ذلك، جلّ الذي لاينسى»، قالت:» لابدّ من دفعه»، قلت:» وأنا لا أقبل أن آخذه مرّتين»، قالت:» حيّرتَني بين أن أصدّقك وبين أن اصدّق هذا الدفتر»، قلت:» أنا أصدق من الدّفتر»، نظرت إليّ غير مُقتنعة، وأغلقت حقيبتها»، كنت أشعر أنّني لو أخذت قرشا واحداً فإنّما آخذ قطرات إضافيّة من دمه…
aaalnaem@gmail.com
عبد الكريم النّاعم