في منتصف الطريق إليها , كان لابد من إلقاء التحية لهذا الذي جعل من « المعرة» قبراً له . أن تمر بمدينته ولا تلقي التحية عليه , فهذا لا يليق بك .. أبو العلاء المعري .. السلام عليك ..!!
وفي المعرة لابد من تناول الفطائر الشهية التي اشتهرت بها المدينة , حيث الاستراحات الضخمة على جانبي الطريق .
كنت في شوق إليها .. يسبقني قلبي وخيالي ..!! كنت أتخيل أنه سيلقانا على مشارف المدينة , يمتطي حصانه , ولعله يفاجأ بنا .. يقول : هذا الحصان لاأبدله بكل سياراتكم .. وهذه المدينة لا أبدلها بمدائن الكون ..!! يرحب بنا سيف الدولة الحمداني , نحن أحفاده يتماهى الجد مع أحفاده . من أعماق الماضي يأتي ومن أعماق الحاضر نأتي يتماهى الماضي مع الحاضر .
يرحب بنا سيف الدولة , هكذا أراه في لحظة لا تنسى . لكن سيف الدولة لم يحضر لاستقبالنا ولا هو أرسل من ينوب عنه كأبي فراس الحمداني ابن عمه , ولا شاعره الأثير أبو الطيب المتنبي .. لكن سيف الدولة كنا نراه من خلال وجه كل من نراه من أبناء حلب .. كنا نراه في في كل شارع .. وفي كل قاعة من قاعات القلعة .. سيف الدولة رمز وتاريخ موصول من ألف عام الى اليوم ..!!
أنت في حلب . هذا يعني أنك في زيارة للتاريخ وفي زيارة للحاضر .
ما أشبه الأمس باليوم ثمة عدوان نجس وإرهاب مجرم , هزمه جيشنا الأبي , كما هزم جيش سيف الدولة الروم ثمة من يستشهد فداء وطنه .. من أجل ألا يدنس شبر فيه ومن أجل ألا يدنس حجر من أحجار قلعة حلب .. هنا للتاريخ مجد الانتصار وللحاضر مجد الانتصار .
يروى أن إحدى العرافات قالت لسيف الدولة « سيأتي وقت تقوم فيه مدينتك من الرماد , وتعود أجمل المدائن , فهل صدقت نبوءة العرافة .. وها هي تنفض عن جسدها جرثومة الإرهاب .. وتزهو » .
كل من جاؤوا الى حلب , أدهشتهم هذه المدينة , بكل ما فيها من النادل الذي يرحب بالضيوف .. الى آخر شاعر أو مغن أو بائع صابون غار ..!! فأنت في حلب تعتقد لوهلة أن كل هؤلاء يعرفونك .. مع أنك تراهم للمرة الأولى ..!!
هذا هو الفرح بالمألوف والأليف .
ثمة مدن تدهشك من أول نظرة , فتقع في حبها , وتدخل قلبك من هذه النظرة الأولى .. وهذا اسمه « عشق المدن» والمدن كالنساء , رموز باذخة للجمال والحياة والخصب.. المدينة أنثى .. والمرأة أنثى , ولهما الحضور والمكان والمكانة . أنت في حلب .. هذا معناه أن قلبك يدق أكثر , وروحك في انتعاش أكبر .
تمشي وتمشي ولا تشعر بتعب ولا ملل .
رائحة الكباب الحلبي الشهير , والبهارات الآتية من مطاعم باب الفرج أو باب الحديد أو شارع بارون .. تعزيك وتثير شهيتك .
حلب بيت النغم والطرب .. حلب صبري مدلل ومها الجابري وصباح فخري وميادة الحناوي .. حلب القدود والموسيقا والألحان .. وحلب الشعر والأدب من أبي تمام وأبي فراس الى عمر ابي ريشة وعبد الله يوركي حلاق وسامي الكيالي وسامي الدهان وفاتح المدرس ووليد إخلاصي ..!!
حلب , وسورية , طائر الفينيق الذي يتحدى الموت و ينهزم المعتدون .. فالمجد لا يعترف بحثالات التاريخ ولا يقيم وزناً لأموالهم وأسلحتهم .. هم حثالات وكفى ..!!
حلب تعترف كيف تصمد وتعرف كيف تنتصر .. وتعرف كيف تزهو وتشمخ .. حلب ابنة سورية .. وسورية ابنة الشرق التي يدللها المجد .. وتزهو بها الجغرافية فهنا عناق التاريخ والجغرافيا .. عناق السيف والقلم ..
هنا حلب…هنا سورية
عيسى اسماعيل