إن حاجة الإنسان للغة حالة دائمة التجدد والحضور منذ تعلمها وحتى آخر لحظة يعيشها فهي العالم الروحي والاجتماعي الذي ينبثق عنه حالات الفرح والحزن والطمأنينة والقلق حيث أنه لا لغة من غير فكر تكون حاملة له بحيث تصبح اللغة فكرا والفكر لغة وما يدور في خلجات أنفسنا لا يكون ظاهرا بشكل علني إلا من خلال اللغة فهي تحتضن كل جديد يطرأ على الحياة واللغة الحية هي اللغة التي تكون قادرة على تلقي كل جديد بحيث تستوعب أي مصطلح جديد لأن اللغة وسيلة وليست غاية فهي وسيلة للإفهام والتواصل الفكري والوجداني ولابد من الإشارة إلى أن كل لغة لها خصائصها وميزاتها التي تميزها عن غيرها من اللغات واللغة أداة مشتركة للنطق يخضع لها الجميع في مخارجها وطريقة تأديتها وفي حركات إعرابها كما في العربية وهي اللغة المعربة فمن يخرج عن سياقها سيكون عرضة للانتقاد والسخرية وكان العرب يعتبرون من يلحن أي يخطىء في حركات الإعراب كأنه يطعن في كرامته واللغة لا تخضع لمشيئة أحد وهي خاضعة للتطور ويكون ذلك من داخلها .
ولا يفوتنا أن نؤكد أن الأشياء من حولنا وخاصة المادية منها هي أساس اللغة فإذا دققنا ببعض العبارات الشائعة نجد أنها نتاج أوضاع اجتماعية وجغرافية وثقافية مما يؤكد أنها لصيقة بالحياة وبحركة المجتمع ونتاج البيئة التي انطلقت منها فمن الشائع في العربية أن تقول لأحدهم متمنيا له السعادة والفرح : أثلج الله صدرك وأثلجه بمعنى فرحه لكن هذا التمني المثلج انبثق من محيط حار في الجزيرة العربية وهو يتفق والمناخ الصحراوي الذي يبحث فيه الإنسان عن برودة تخفف وطأة الحر الشديد وهو دعاء ينقلب على المرء إذا كان في بيئة باردة مليئة بالثلوج خاصة أن كل ما هو حار لدى العرب يبكي ولا يشير إلى أي سرور .
إذا اللغة تتأثر تلقائيا بالتحولات الاجتماعية حيث يستعان بها للتعبير عن كل حالات النفس البشرية وما يحيط بها وهي الأداة التي تحقق المساواة بين كل البشر إذ يستعملها الغني والفقير ويستعملها الرفيع والوضيع وهي سجل لظروف الإنسان.
واللغة العربية نشأت في بقاع الجزيرة العربية ووصلت مع الفاتحين إلى حيث وصلوا وقد ورثناها لتكون وسيلتنا إلى جهات حياتنا مع أدق التفاصيل في حين أتى على أخواتها من اللغات السامية ما يشبه الانقراض وما زالت العربية متفتحة يساعدها في ذلك اشتقاق قائم في صلبها وقد أتى عليها حين من الزمن أضحت فيه لغة العلم فاستوعبت إبان المرحلة الذهبية العباسية علوم زمنها عبر الترجمة ثم تجاوزت النقل إلى الإبداع فما بالك بلغة تنطق بالفلسفة والفقه والكلام والعلوم البحتة واليوم أداة عظيمة في التعبير عن الحداثة شعرا ونثرا.
إن تاريخ اللغة العربية من تاريخ العرب أنفسهم منذ البدء إلى أن تقوم الساعة ولغتنا هي كرامتنا فهل كنا على قدر التحديات وحافظنا عليها في زمن نحن العرب مستهدفون فيه في كل شيء وفي مقدمة ذلك القضاء على أهم عامل يجمعنا ويجتمع فيه التاريخ والجغرافية بعيدا عن حدود اصطنعت أصلا لتكون بوابة العبور إلى إضعافنا وجعل اللهجات المحلية بديلا عن اللغة الواحدة التي يتكلم بها مئات الملايين من صانعي الحضارة والتاريخ .
شلاش الضاهر