حَليمُ عَصْرِهِ

على الرُّغمِ منْ أنَّ العالمَ على اتِّساعهِ قد أصبحَ قريةً كونيَّةً صغيرةً، وعلى الرُّغمِ من سهولةِ الاتِّصالاتِ ، وسرْعةِ المواصلاتِ ، وهذا التَّقدُّمِ الهائلِ في كلِّ المجالاتِ ،إلاَّ أنَّ الإنسانَ أصبحَ لجوجاً ملحاحاً، وعصبيَّاً نَزِقاً ، فترى إنسانَ هذا العصرِ ولأتفهِ الأسبابِ متأججَ المشاعرِ ، منتفخَ الأوداجِ ، يضطربُ ويثورُ كبركانٍ وشيكِ الانفجارِ.
وفي زوبعةِ الحياةِ اليوميَّةِ رحْتُ أفتِّشُ عن شخصٍ هادئ الأعصابِ ، رضيَّ النَّفسِ ، لا تثقلُ جفونَهُ ذكرى الأحزانِ ، ولا تهزِمُ ابتسامَتَهُ جبالٌ من الحسدِ والضِّيقِ والتأفُّفِ.
وقد حملتني ذاكرتي المكُّوكيَّةِ إلى رجلٍ سمحٍ عُرِفَ بالهدوءِ والاتِّزانِ والسَّكينةِ واتَّسمَ بالكرمِ والوقارِ والشِّاعريَّة والشَّجاعةِ حتَّى ضُرِبَ بِهِ المثلُ بالحلمِ .
إنَّهُ معنُ بنُ زائدةَ، كانَ أميراً جوَّاداً شجاعاً جزلَ العطاءِ .
ولطالما سمعْنا عبر التَّاريخِ عنْ أناسٍ امتازوا بالحلمِ وسعةِ الصَّدْرِ فحازوا رضا النَّاسِ ومحبَّتَهُم وإعجابَهم وما معنُ بنُ زائدةَ إلاَّ أشهرهم .
وقد رويَ عن معنٍ أنَّهُ لمَّا اشتهرَ وذاعَ صيتُهُ في البلادِ ، وعلا شأنُهُ بين العبادِ ، وتناقلَ أخبارَهُ القاصي والدَّاني لمَا اتَّصفَ به من عظيمِ الحلمِ ولو في أحلكِ المواقفِ التي تؤجِجُ مشاعرَ الغضبِ ، وتثيرُ في النَّفْسِ مكامن اللهبِ ، فأخذ رجلٌ على نفسِهِ عهداً أمام النَّاسَ أن يغضبَهُ ، وأن يجعَلَهُ يثورُ ويتَّقِدُ كمرجلِ يغلي كلُّ ذلك مقابلَ مبلغٍ من المالِ .
ارتحلَ الرَّجلُ قاصداً معنَ بن زائدةَ وهو يوم ذاك والياً فاستأذنَ بالدخولِ عليه، فلمَّا مثلَ بين يديه أنشدَهُ من غير إذنٍ ولا تحيَّةٍ
أتَذْكُرُ إذ لِحافُكَ جِلدُ شاةٍ وإذ نعلاكَ من جِلدِ البَعيرِ
فقال معنُ بكلِّ أدبٍ : أذكرُ ذلك ولا أنساهُ ما حييتُ .
فزادَهُ الرَّجلُ قائلاً :
فسبحانَ الذي أعطاكَ مُلْكاً وعلَّمَكَ الجُلوسَ على السَّريرِ
فقال من وهو يبتسِمُ :إنَّ اللهَ يعزُّ من يشاءُ ، ويُذلُّ من يشاء .
فقال الرجلُ وقد اعتقدَ أنَّهُ سيدمِّرُ ويزلزلُ أركانَ هدوءِ معنِ بن زائدةَ :
فلسْتُ مُسَلِّماً ما عِشْتُ دهراً على معنٍ بتسليمِ الأميرِ
فقال معنٌ بهدوءٍ وثقةٍ : سلامُكَ عليَّ خيرٌ ، وليسَ في تركهِ ضيرٌ .
بدأتْ عزيمةُ الرَّجلِ تخورُ وتفترُ ، ومعَ ذلكَ فقد أراد أن يكملَ لعبةَ الإغاظةِ فقالَ:
سأرحلُ عنْ بلادٍ أنْتَ فيها ولو جارَ الزَّمانُ على الفقيرِ
فقال معنُ والابتسامةُ لا تفارقُ شفتيهِ :
إنْ جاورتَنَا فمرحباً بكَ ، وإن غادرْتَنَا فمصحوباً بالسَّلامةِ .
تملَّكَ الغضبُ الرجلَ من برودةِ أعصابِ الأمير فقال مغتاظاً :
فجُدْ لي يا ابنَ ناقصةٍ بمالٍ فإنِّي قد عزمْتُ على المسيرِ
فقال معن وكأنه سمع مديحا لا شتماً :أعطوه ألفَ دينارٍ تخفِّفُ عنه عناءَ السَّفَرِ.
فقال الرَّجُلُ وقد انتفختْ أوداجُهُ ،وتآكلَتْهُ نيرانُ الغضبِ :
قليلٌ ما أتيتَ به وإنَّي لأطْمعُ منكَ في المالِ الكثيرِ
فثنِّ فقدْ أتاكَ المُلْكُ عفواً بلا عقلٍ منكَ ولا رأيٍ مُنيرِ
فقالَ معنُ دونَ أن تهتزَّ له شعرةٌ من الغضبِ :
أعطوه ألفاً ثانياً لعلَّهُ يكونُ عنَّا راضياً .
عند ذلك ذابتْ صلابةُ الرَّجلِ ، كما الجليدُ تحتَ أشعَّةِ الشمسِ اللاهبةِ، فخرَّ صَعِقاً وتقدَّمَ من الأميرِ، وقبَّلَ الأرضَ بين يديه، وأنشدَ قائلاً :
سألْتُ اللهَ أن يُبْقيكَ دهراً فما لكَ في البريَّةِ منْ نظيرِ
فمنْكَ الجودُ والأفضالُ حقَّاً وفيضُ يديكَ كالبحرِ الغزيرِ
فقال معن بوجهٍ سمحٍ ضاحكٍ :
أعطيناكَ ألفينِ على هجائنا، ونعطيكَ أربعةً على مديحِنَا .
فقال الرَّجلُ معتذراً ووجههُ معفَّرٌ من سوءِ طالعِهِ:
واللهِ يا أميرُ ، أنت نسيجُ وحدِكَ في الحلمِ ، ونادِرَةُ دهرِكَ في الجودِ ، وليسَ كمثْلِكِ أحدٌ
واللهِ يا أميرُ ، لقد سمعْتُ عن حلمكَ فما صدَّقْتُهُ ، وما أقدمْتُ على ما أقدمْتُ عليه إلاَّ لأختبِرَ حلمكَ فما وجدْتُكَ إلاَّ فوقَ الوصْفِ والخيالِ ، ولقد تعاهدْتُ مع القومِ على أن أغضبَكَ مقابلَ مبلغٍ من المال، وإن لم أفعلْ أدَّيْتُ مثْلَهُ .
فقال معنُ : لا تثريبَ عليكَ ، ووصلَهُ بمبلغٍ من المالِ وهو يقولُ لهُ : نصفُهُ للرهانِ ونصفُه لكَ ، فأخذه الرَّجلُ وعينهُ تدمعُ شاكراً لهباتِ الأميرِ، و معجباً بجميلِ حلمِهِ ،
فهل يوجَدُ في هذا الزَّمانِ منْ يحملُ نقاءَ هذا الحلم ؟
جمال السلومي

المزيد...
آخر الأخبار