• طفل أول:
مرَّ قربَها، لم يكن متيقناً أنها فارقت الحياة حقّاً، بعدها أُسقط في يده! هلعاً ارتعدت فرائصه، من هول المشهد، ولّى هارباً، قال لأمّه الغالية، بعد أنْ دفع جسده الصغير المرتعش إلى حضنها الدافئ:
– «.. أمّي، أمّي، رأيت قطة بيضاء ناعمة، لكنها كانت ميتة، متّشحة بحزنها الوضّاء…تألمتُ عليها تماماً، وجدتُ فوقها وإلى جانبها عدداً جمّاً من الأحجار من مختلف الأحجام، كان المنظرُ صعباً وقاسياً ومُرّاً يا أمّاه..»!!
• طفل ثانٍ:
مرَّ قربَها، مثلَ تمثالٍ حجريٍّ توقف أمامها، تثلج الدّم في شرايينه وأوردته من شدّة الخوف، وعنصر المفاجأة، وهو المحبّ العاشق لهذا الجنس من الحيوان… بأمِّ حزنه الدّفين، رأى الدّم المتخثر، تمتم في قلبه بلثغةٍ كابية: «مجرماً كان في سِياقتِه الرّعناء، قدْ دهَسَهَا عن قصدٍ بعجلات سيارته الفارِهَة، ماتت حزينة خاوية، بينما كانت تتلألأ بِعينيها الجاحظتين صورُ أولادها السّبعة…»!
• طفل ثالث:
مرَّ قربَها، على وجهها البريء، رأى آثار كدَمَات وَسَحَجَات، كانت ظاهرة للعَيان، قال مُستنكراً، بصوتٍ طفليٍّ كتيم: «هل يُعقل أنْ تصل النذالة بقطّ ذكوريّ مُتطاوِس، أنْ يفعل بك فعلته النّكراء، وجريمته المُدَانة؟ يبدو أنه ارتكب كلّ تلك الحماقة، لأنكِ بصلابةٍ قاومتِ رغباته الحسيّة الدّنيئة، رفضْتِ مُدَاوَراته السّخيفة، فما كان منه إلا أنْ وثبَ عليك بأظفاره الحادّة، وحقده المَسْنون، وأنانيّته الفظّة، وكانَ ما كان»…
• طفل رابع:
مرَّ قربَها، داخلتْهُ ظنون وخيالات وتهويمات بانوراميّة شتّى، لحظتها صارت روحه أشبه ما تكون بيومٍ مُزَوْبِعٍ مقيت، مخمّناً قال: (.. ربّما دهسَتْها درّاجة ناريّة ، فقد أراد ذلك الشاب الطائش الأرْعن، أنْ يمازحها ويلاعبها، لكنها بثوانٍ، أضحتْ جثة هامدة، مصطبغة بدمٍ قانٍ لزِج، أمّا هو فقد طار بدرّاجته المجرمة، تاركاً وراءه ضحكاته البلهاء المُوجِعة، تزوبعُ في الفضاء؛ إلى الأعلى فالأعلى .. مع دخان السيّارة، المتطاير)…
• طفل خامس:
مرَّ قربَها، بل وقف أمام رأسها تماماً، عيناها الجاحظتان كانتا مُنْهَكَتين، امتلأتا رُعْباً أسطوريّاً، تجحّظ حزنُه هو الآخر، بِعينيها هاتين، قرأ أسراراً غريبة، طلاسمَ لم يستطع فكّ رموزها و»شيفراتها»… حين أنعمَ الغوْصَ في حزنه جيّداً، مرّة ومرّتين وثلاثاً، قرأ كلمتين اثنتين: «أوْغاد»، «أبالِسة»، لكنّ كلّ ذلك كان نوعاً من التهيّؤات الآنية الطارئة… بلا شعور منه التفت يمنةً يسرةً، بصقَ مرّاتٍ عدّة، في بؤرة ألمه، وحُمَّى حزنه، كان يعلم جيّداً لِمَن يوجّهها هذه اللحظة بالذات، فقد كانَ وعيُه الآنَ يقِظاً وحادّاً ومشرقاً..
• طفل سادس:
مرَّ قربَها، تسمّرَ بِمكانه من هَوْل المفاجأة، رأى جسد القطة الصغيرة؛ وقد تمرّغ بطين الشتاء، وبقع الدّم، ورطوبة المكان، وفوقه وإلى محيطه، نامت بعض أوراق خريفيّة متناثرة لشجرةٍ قريبة هرِمة.. ذرف قلبه دمعاً خريفيّاً، وبلغةٍ مُتأسّيةٍ قال بِسرّه:
«.. أليست هذه القطة مخلوقاً مثلنا؟ لماذا يقتلُ الإنسانُ كائنا حيا، يبقر بطنه، يمثّل بجثّته، أو يؤذي وجوده وكيانه، ويسلبه حريّته وابتسامته ودمَه وأمنَه، لأتفه الأسباب، وأكثرها نذالة ووحشيّة»؟
بجرأة متأصّلة، وبدافع الفضول، مدّ يده، حرّك الرّأسَ الصغيرَ المُنمنم، ليتيقّن بنفسه عن كثبٍ: هل صاحبتُه ميتة حقاً، أم أنّها غائبة عنِ الوعي ليس إلّا، وأنها لا بدّ ستصحو بعد قليل؟
بابتسامته الشّاحبة، كذّب عينيه، بل اتّهمهما بالضبابيّة والغبَش .. فرَكَهما جيّداً، كان كلّ ذلك تهيّؤاً من التّهيّؤات الخاصّة، فرضَه هذا المشهد الأليم، لقطةٍ مسكينةٍ نافِقة، غادرَتْ غدْراً أمومتَها وأولادَها بآنٍ معاً، إلى غيرِ رجعة!!
وجيه حسن
المزيد...