في بدْءِ، فإنّ التّهنئة الغالية موجّهةٌ للأمّهات جميعهنّ، بِعيدهنّ الزّاهر الأغرّ: “عيد الأمّ”، وأوّلاً للأمّهاتِ العزيزات الغائبات، اللواتي خرجن من هذه الدّنيا الفانية، في أوّل السّباق والشّقاء، فلأرواحهنّ الطاهرات، الرّحمات الضّافيات.. ومنهنّ أمّي الغالية، أكرمَ اللهُ ثراها ومثواها.. قد يقول قائل: من أينَ استقيْتَ هذا العنوان الثّنائي المختلط، ليكون بمنزلة التّرويسة لـ “تحيّة الصباح”؟! والذي جعلتَه شاملاً مناسبتين عزيزتين مُهمّتين: “عيد المعلّم، وعيد الأم”، بآنٍ معاً! نعمْ وبحقٍّ، هما مناسبتان هامّتان عزيزتان على القلوب، بسبب الدّور الحيوي والحقيقي، الذي يضطلع كلٌّ منهما به، في هذه الحياة، وما دمتُ قد أفردْتُ “تحيّة صباحيّة” من قبلُ، على صفحات جريدتنا “العروبة” الغرَّاء، تحت عنوان: “أرّأيتَ أعْظمَ أوْ أجَلَّ مِنَ الّذي..”، بمناسبة “عيد المعلّم”، فإنّني سأقصر الكلام هنا على “عيد الأمّ” وحده.. فالأمّ الحقيقية، أيّها الأبناء الأحبّاء، مسؤولة بالدّرجة الأولى عنْ بيتها وشؤونه، عنْ أولادها وشؤونهم وتربيتهم، وكما تريد تنشىءُ أطفالها ابتداءً، منذ نعومة أظفارهم، لأنّ الأمّ الطيّبة، ذات التربية الصّالحة، لا تُسمِع ولدَها إلّا حقّاً، ولا تُرِيهِ في هذه الحياة المُتلاطِمة إلّا خيراً، ولا تُفتّقُ أمعاءه إلّا بطيّبٍ حلالٍ من الرِّزق، ولا تُغذِّيه إلّا بمقدار ما يحتاج إليه، غير مُشبِعةٍ ولا مُجِيعةٍ، وإذا رأته قابلاً للتّعليم، وأهلاً له، شَرَعَت تزيّنُه له، وترغّبُه فيه، وتلقي عليه من ذلك ما يتناسب مع سنّه وعقله وإدراكه، وتربط له بين صدق القول وقوّة العمل، من دونِ لفٍّ ولا زَوَغان ولا مُخاتلَة.. الحقَّ أقول: الأمّ هي المعلّم الأوّل، والأستاذ الأوّل، بلْ هي أستاذُ الأساتذةِ، وبيتُها هو الحضانة الأولى، والمدرسة الأولى، ومن نفَسِها إلى نفَس ولدِها، ينبعث النُّور، ويضمحلّ الدّيجور “الظّلام”، والأمّ، هي التي تنقل لأبنائها الصّورَ لكلِّ حَسَنٍ وقبيح، ولكلِّ نافعٍ وضارّ، ليتمكّن الولد من التّمييز بينهما، والأخذ بالأبيض منهما.. استناداً إلى ما وَردَ، واعتماداً عليه،، فإنّ الدَّوْر المنُوط بالأمّ، دور هام ، وإنّ من أسباب إخفاق بعض الأُسَر في الحياة، مردُّه إلى الأمّ، في المقام الأوّل، وإذا كانت الأمّ صالحة، ذات تربية بيضاء، سارت سفينة الحياة والمجتمع، منْ دون مطبّات، أو مُعوّقات، أو ارْتكاسَات.. بهذا الصّدد، تعالوا نقرأ ما كتبه أحد شعراء العربيّة، حول دور الأمّ الهامّ، وحول قيمتها العظيمة الضّافية في الحياة:
“مَنْ لِي بتربيةِ النِّساءِ فإنَّها في الشَّرْقِ عِلّةُ ذلكَ الإخْفاقِ”
“الأمُّ مدْرسَةٌ إذا أعدَدْتَها أعدَدْتَ شَعبَاً طيِّبَ الأعْرَاقِ”
“الأمُّ رَوْضٌ إنْ تَعَهَدَهُ الحَيَا بِالرِّيِّ أوْرَقَ أيَّمَا إيرَاقِ”
“الأمُّ أستاذُ الأسَاتِذةِ الأُولَى شغَلَتْ مآثرُهُم مَدَى الآفاقِ”..
وإذا ما ساقتنا هذه “التحيّة الصباحيّة”، للحديث عن الأمّ الجاهلة، فهذه – ومن أسفٍ – لا يكون أبناؤها إلّا ضعفاء في أجسامهم بسبب سوء التّغذية، وضعفاء في عقولهم لسوء التربية، فهي التي تملاُ قلوبهم بالأوْهام والمخاوف، والعقائد الباطلة، والحِكايات الخرافيّة، وهي التي تُعلّق عليهم التّمائم والحُرُوز والعِظام والحُجُب والوَدَع والخَرَز، اتّقاءَ البأس، ودفعاً لِغائلة الشرّ، وردّاً لِعينِ العائِن، وإذا تأخّروا عن مدارسهم، أو قصّروا في واجباتهم المدرسيّة، وفي وظائفهم، اعتذرت لهم، ودافعت عنهم، وزعمت افتراءً وخِداعَاً، أنَّ هذا مريض، وهذه مشغولة، وهذا صغير لا يفهم، والآخر كبير، وقد فاته سنُّ التّعليم، فيغدو أبناؤها، فلذات كبدها، من الجنسين، عالةً على الأسرة برمّتها، وعبئاً ثقيلاً على كاهل كلٍّ من الأبوين الجاهلَيْن، وقد يكونون عاجزين عنْ شقّ طريق لهم في الحياة، توصلهم إلى السعادة، وحضن الاستقرار، فتصبح هذه الأمّ الجاهلة وتمسي مَعنيّة بهم، وساعية عليهم صغاراً وكباراً، وفي شبابها تحمل زيداً، وتُرضع جهينة، حتى إذا دهَمَها قطار الشّيخوخة، انطلقت لتعمل في بيوت الناس المُقتدرين، ومنازل الأغنياء الأثرياء، طبّاخة، أو غسَّالة، وهي تقاسِي الأمرَّين في بيتها، تعاني صعوباتٍ شتّى، كلّ هذا وذاك منْ أجل أولادها، حبّات القلوب، الذين قصّرت عليهم في تعليمهم ابتداءً، وكانت في الوقت عينِه عاجزةً عن إصلاح شؤونهم، وهندسة مستقبلهم، الذي أضحى، ويا للأسف، ريشة خفيفة في مهبِّ ريحٍ عاتية… وكلّ عام وأمّهاتنا اللواتي على قيْد الحياة، وأمّهات العالَم بخير!
وجيه حسن