كان الجوّ ربيعيا إلّا أن ّ الربيع أضحى خريفا تصفر الرياح في كل جنباته مع كل صباح منذرة بارتقاء شهيد آخر 00
مساءً ’طلب إليها أن تكون في العاشرة صباحاً أمام المشفى العسكري بحمص لتشييع أحد شهداء الجيش العربي السوري لتغطية الحدث وإجراء مقابلات مع ذوي الشهيد 00
ومع التاسعة صباحاً انطلقت حنان باتجاه حمص التي كانت مداخلها مغلقة بالحواجز العسكرية لمنع تسلل الإرهاب المتوحش الذي كان يتربص بكل شبر منها 00
في طريقها إلى المشفى وعند تحويلة جسر مصياف اغرورقت عيناها بالدمع والتهبت في صدرها جمرة الأسى لمشهد لم تألفه من قبل ولم تشاهده إلا في نشرات الأخبار حيث فوجئت بالحواجز والسواتر الترابية وتقف السيارات في رتل طويل تنتظر التفتيش في طريقي الذهاب
والإياب ،ماذا حل بنا… ؟
رباه لا أصدق ما أراه ! أين الأمان الذي كنا ُنحسد عليه ..إلى أين نحن ذاهبون . أيّ مصير ينتظرنا ؟؟؟
عند براد المشفى توشح المكان باللون الأسود والوجوه الحزينة المتسمرة التي يصرخ صمتها …منتظرة انبلاج الضوء من بوابة البراد والممرضات اصطففن بالعشرات يحملن أكاليل الورد والغار.
وعلى الطرف الآخر تأهب الضباط وعناصرهم لبدء مراسم التشييع 00
هنا تجمد الحبر في يراع الصحفية وتوقف الزمان عند هذا المشهد المؤثر ؟ وقف السؤال في حنجرتها 00تلعثمت وهي تقترب من والد الشهيد وأخيه الذي تزين النجوم أكتافه 00وقالت 00/أنا صحفية 00مبارك لكم استشهاده ماذا تقولون عن استشهاده ؟ فيجيب الأب بحرقة تكاد تذيب الصخر ألماً 00افتخر باستشهاد ابني وأبنائي الستة الآخرون فداء للوطن ولقائد الوطن ؟
لحظة ويخرج التابوت محمولاً على أكتاف انحنت إجلالا لروح من يحتضنه وانهالت مزن الدمع مجلجلة هدوء المكان وتعالت الزغاريد وعزف لحن الشهيد و النشيد العربي السوري ليزف الشهيد في مشهد جنائزي تلاقى الله فيه والبشر 00.
ومرة أخرى طريق مصياف حمص لكنه الآن لاستقبال موكب هذا الشهيد حيث تلاقت مواكب المشيعين بالمئات تناثرت هنا وهناك على طول الطريق والدموع تغرق المكان كينابيعه العذبة والأعلام تلوح بأيدي الأطفال والرصاص يخرق صمت المكان والنساء ترش الموكب بالأرز والورد والسيارات والدراجات النارية بأبواقها المزمجرة تغزو المكان لاستقبال الشهيد البطل 00
ويتتالى المشهد ذاته يوميا لكنه اختلف بتزايد عدد الشهداء إلى أن كان ذلك اليوم الذي لن تمحوه الذاكرة المتآكلة حيث فوجئت حنان عندما دخلت إلى المشفى العسكري لترى واحدا وعشرين تابوتاً ملفوفة بالعلم الوطني ترقد في ساحة التشييع والمشيعون بالمئات أو ربما بالآلاف ينتظرون لحظة التشييع المهيبة إنهم شهداء كلية المدفعية في حلب لم يتجاوزوا العشرين عاماً حملوا النجمة على أكتافهم لتحملهم نحو السماء ناموا في مهجع واحد واليوم سيرقدون في منزلة ربانية واحدة 00…وهكذا صار التشييع طقساً مقاوماً …صرنا ندفن الشهيد وترجع أمه لبيتها توضب ثياب أخيه العائد إلى الجبهات ..وتتابع زوجته التحضير لامتحانات الأولاد …نعم صار التشييع حدثاً مقاوماً يتوقع حدوثه ونتأهب له …فقد سمى أجدادنا الحرب أم المنية .
حنان سويد