“الولّاعة” هي إحدى روايات الكاتب الروائي المرحوم “حنّا مينة”، و”إذا كانت عظمة الكاتب تنبع من معرفته العميقة بالواقع المَعِيش، وتراثه، وظروفه”، كما يقول “جورج لوكاتش”، فإنّ أهمية “مينة” روائياً، تأتي من معايشته، وخبرته، ووعيه للعلاقات الاجتماعية النّاظمة في كلّ تركيباتها.. ويمكن القول من دون تهيّب: إنّ الروائي الكبير “مينة” هو الأكثر براعة وحنكة بتصوير دقائق الخلجات البشرية الداخلية، وتحليل منظومة المشاعر المكبوتة المتواثبة بمخيّلة جميع أبطاله، من مختلف الأعمار، والفئات، والمشاغل، وهو الأكثر خبرة بكواليس المجتمعات: غنيّها وفقيرها، سوقيّها وسادتِها، قويّها وضعيفها، الحقَّ: إنّ “مينة” في رواياته العديدة المُتكثّرة، كنز تجارب، ونبع معلومات لا ينضب! وإذا تركنا المعرفة والخبرة والتجربة، فإننا نستطيع أن نضيف إلى ذلك، المقدرة الهائلة على التقاط أدقّ مكوّنات الأحداث، ومراكمتها، وتجميعها،.. في “الولّاعة”، نجد “مينة” لصيقاً جداً بالهمّ الاجتماعي، الذي يعيشه الفقراء، والبائِسون المُبتئِسون، ولا يزال “مينة” البحّار الأفضل، وهو يغوص إلى أعماق الذات الإنسانية المعذَّبة، محلّلاً المشاعر والأحلام والمواجع والطموحات.. والمهن التي عَرَكَتْهُ، قد صاغت تجربته في إطار واقعي واضح المعالِم، وهو الذي عمل على تصوير أحلام البؤساء، وواقعهم البَئِيس، وقتامة حياتهم، وسواد واقعهم، والسّعي إلى منافذ ضوء لخلاصهم..
* * *
ومن “ولّاعة” الروائي الكبير “مينة”، إلى ولّاعة السّود، وسواد واقعهم، في الولايات المتحدة الأمريكية، الذين أشعلوا شعلة غضبهم، ونار ولّاعتهم، ضدّ العنصرية البغيضة التي تُمارَس عليهم منذ أمدٍ بعيد، والذين يقضّون اليوم مضجع، بل مضاجع الرئيس الأمريكي، المجرم الطاغية “دونالد ترامب”، الذي ترك لشرطته المأجورة المَكْلُوبَة الحبلَ على الغارب، وحرية قتل كلّ مَنْ يطالب بأبسط حقوقه الآدميّة، وكلّ مَنْ يقف في وجهه ووجه طغمته، من طبقة السّود الذين يعيشون في الولايات المتحدة كطبقةٍ من (الدّون) منذ مئات السنين، حيث النظام الأمريكي العنصري الحاقد، يعاملهم كطبقة ثالثة أو سابعة أو عاشرة، ويمارس ضدّهم أبشع أنواع الإذلال والاضطهاد والتّعذيب والقتل والإرهاب، كما فعلوا مع الشاب الأسود “جورج فلويد”، الذي قتلته الشرطة الأمريكية، جهاراً نهاراً، بأعصاب باردة، وبطريقة كاوبوية إجرامية مبيّتة، الأمر الذي دفع الشارع الأمريكي إلى أن يكون ولّاعة لهب متأجّجة في عموم ولايات الدولة، فهل يسكت جمهور السّود عن جريمة قتْل واحد منهم، وهو الذي يمثلهم جميعاً، وكأنّ القتل يعنيهم طُرّاً، ويستهدفهم كافّةً، اليوم وغداً، وفي كلّ حين، وفي كلّ مكان؟ أم أنّ دم الشاب “فلويد”، الأحمر القاني، لن يذهب هدراً وسُدَى، وأنّ غالبية السّود يعانون الأمرّين، في ظلّ الحكم الأمريكي العنصريّ الحاقد، وفي ظلّ الأحكام الجائرة، والقوانين الظالمة، فهل يتحمّل الطاغية المَعتوه المُستكبر “ترامب” – هذا التّاجر الثريّ (البراغماتي) – المَصْلَحي،، الذي لا يهمّه سوى تهريم المال بأنواعه، وتطلعاته النّرجسية – هذا السّيلَ من التظاهرات الغاضبة ضدّه، وضدّ طغمته وزبانيته، وهذا المدّ الجماهيري الثائر كبركان، من أرباب البشرة السوداء، وأصحاب البشرة البيضاء، داخل الولايات المتحدة نفسها، وفي كثرة كاثرة من دول العالم، على حد السّواء؟
* * *
ومن “ولّاعة” الروائي المرحوم “مينة”، إلى ولّاعة الأسعار ونيرانها، ولظى لهيبها بأسواقنا المحلية، التي تكوي القلوب والجيوب، ليس على صعيد أسعار الخضراوات والفاكهة والأدوية والذّهب واللحم والمعلبات بأنواعها، لكن على جميع الصّعد، فهل يُترَك الأمرُ بهذه البساطة للتجار والسماسرة والوسطاء والمحتكرين، ليتلاعبوا بلقمة العيش، وحبّة الدّواء، وقوت الشعب، الذي تحمّلَ بصبرٍ أيّوبيٍّ الكثيرَ خلال الحرب الظالمة على “سوريانا” الصّمود، التي تدخل عامها العاشر، وما اكتنفها على أيدي عميان العقول، من حيف وقتل، وخطف وتهجير، وتعذيب وتخريب، واغتصابٍ وتنكيل، وتمثيلٍ قاسٍ بأجساد الأحياء، واليوم من حرقٍ مُتعمَّد لمحاصيل القمح والشّعير والقطن، وحرق أشجار الزيتون والفاكهة هنا وهناك، وسوى ذلك كثير، فكيف يكون التصدّي لهذا المجرم الغازي “ترامب”، ولكلابه الشّاردة الضّالة، التي تحتلّ جزءاً غالياً من أراضينا، وتعتدي اليوم على شعبنا بسيف الحقد البالغ، وتسرق ثروته الدّفينة من النّفط والغاز، وما خَفِيَ كان أعظم؟!
وجيه حسن