“تحية الصباح”… تجديد صلاحيّة التّوبة..

يُروَى عن لصّ محترف، غارق باللصوصية حتى شحمتي أذنيه، أنه أعلن التّوبة، عن كلّ تصرّفاته السابقة المُدانة، وأنّ زبانيته احتاجوا إلى خبرته في ليلة ليلاء، وعندما ذهبوا إليه طالبين المساعدة، قال بالفم الملآن: (إنني أعلنت التّوبة وإلى الأبد)! لكن ما إن ألمحوا له بنسبة سخيّة من المال، الذي ينوُون سرقته، حتى شعرَ بالرّخاوة والاستجابة، سالَ لعابه، لانَتْ كلماته التي كانت جادّة صارمة.. أخيراً اهتدى إلى الحلّ، اعتدل في جلسته، قال: “لو أنكم حضرتم إليّ قبل إعلان التّوبة، لكان الأمر خيراً، ولقدّمت لكم ما تشاؤون، فتمثيلاً، كنت سأقول لكم، كيف تفتحون الباب، ومن أيّ مخرج تخرجون.. فالمنزل الذي تنوُون سرقة المال منه، أعرف تفاصيله، أبوابَه، نوافذَه، ومنافذَه”! واستغرقَ اللصّ التّائب في شرحٍ وافٍ، لدخول المنزل، والطريقة التي بوساطتها تتمّ عملية السّطو.. وما إن فرغ من حديثه، حتى عاد إلى جلسته المُسترْخِية، زفرَ زفرتين، محرّكاً رأسه ذات اليمين وذات الشمال، ليقول: “لكنكم للأسف لم تجيئوا قبل إعلان التّوبة”! زبدة الحكاية: لقد قدّم اللصّ المحترف لزبائنه القُدامى كلّ ما يريدون، لكن بطريقة أوْحَت لهم، أنه لم يعد الآن مسؤولاً عنْ ذنوبه وعنْ مواعظه، التي طالما قدّمها لتلامذته من اللصوص الأغرار المبتدئين.. أعتقد أنّ هذه الحكاية مُكتفِية بذاتها، وقد لا تحتاج إلى مزيد من التوضيح، كي نستذكر مئات الأشخاص والآلاف في هذه المعمورة، الذين أعلنوا توبات ، لمجرّد تغيير الفخّ المنصوب لإيقاع المزيد من ضحاياهم، واصطيادهم! دول كبيرة، بحجم إمبراطورية، تفعل اليوم ما فعله ذلك اللصّ التّائب، نفضت يديها من غبار البيوت المَنْسُوفة فوق رؤوس أصحابها، وغسلتْها من الدّم، تماماً! وثمّة أيضاً عصابات، وأحزاب، ذات غطاء أيديولوجي، تتوب، لكنّها توبة تكتيكيّة، المقصود بها: تجديد النّاب والمخلب، لغرزِهما على تؤدة، وعلى مهل في لحم الضحية! اللصّ الصهيوني تمثيلاً، نادراً ما يعلن التّوبة، لكنه بالمرّات القليلة، التي أوشك أنْ يعلنها صريحة، سارعَ ضحاياه السذّج لتصديقه، لأنّهم يتضرّعون طوال الليل، كي يعثروا على نافذة للخلاص والنّجاة، بوساطة الفرار أو الهرب من هذه الحافلة المحترقة، أو هذا المنزل الذي لحقته عنصريّة الجرّافات المُعتدِية! نعرف أنّ البشر يتغيّرون، وقد يتمكّن بعضهم من قيادة انقلاب جذري ضدّ سلوكٍ ما من سلوكاته، أو ضدّها جميعاً، أو حتى ضدّ جملة من تصوّراته عن نفسه، وعن الآخرين، لكنّ مثل هذه الانقلابات، لا تتمّ بين عشيّةٍ وضُحاها، كما أنّ أوجاع نقد الذات، والمراجعة التي تسبقها، قد لا يقوى على احتمالهما سوى الأفذاذ الميامين! أمّا أكثرية معلني التّوبات التكتيكيّة، فَهُم بأفعالهم مثل ذلك اللصّ، الذي تقاعدَ عن السّرقة، ليبيع خبراته عنها بحفنة من المال، ولأننا نعيش في زمنٍ يزعم سَدَنَتُهُ وقادتُه، أنه زمن الشّفافية، و”الكوكب القرية”، وحرية الرّأي والتّعبير، فإنّ ترجمة مضادة ومعاكسة وفورية، يجب أنْ تحدث لكلّ تلك المزاعم والأباطيل، فنحن اليوم نعيش زمناً، يعرفه السُّودُ جيّداً، الذين يعيشون زمن الاضطهاد العنصري البغيض، على أيدي شرطة الرئيس المجنون “دونالد ترامب”، وطغمته العسكرية والسياسية الغاشمة، وزمن احتلال الدول بمنطق “قانون القوة”، وليس بأيّ منطق آخر، وهذا ما قام ويقوم به “ترامب” في جزءٍ غالٍ من تراب “سوريانا” العزيزة.. إنّه زمن نضطرّ فيه، رغم ثقافة “الأنترنت”، وما بعده، إلى استلهام الحيوانات كي تنوبَ في حواريات النّاب والمخلب، فهي وحدها التي لم تضطرّ إلى الصّمت، رغم تدجينها والتّرويض! فالخيول التي تجرّ العربات، لم تنسَ الصّهيل كي تبرهن لنفسها وللآخرين، أنّها لا تزال خيولاً، وأنّها ليست عناكبَ أو سلاحفَ أو جراداً! والحيوانات لا تصمت تماماً إلّا عندما تموت، وحدَه الإنسان الذي يجيد “لعبة الصّمت”، وهو في عزّ الحياة، لكن أيجدي حقاً هذا الصّمت في زمنٍ أسودَ، يحوّل فيه “ترامب” حقولنا الزّراعية من قمح وشعير وقطن وزيتون، إلى رمادٍ تذرُوه الرّياح، وهو اللصّ المحترف، الذي لا يتوب عن سرقة خيرات بلادنا من النّفط والغاز، الذي يتبجّح بِصفاقةٍ وعنجهيّةٍ قائلاً: “إنّني أعشقُ النّفط السوري، وأموت هُيَامَاً بالغاز”؟!

وجيه حسن

      

المزيد...
آخر الأخبار