يقال عن الطب إنه مهنة إنسانية .. وهذا خطأ شائع .. هل يمكنك أن تسمي لي مهنة غير إنسانية ؟! فهل مهنة النجار غير إنسانية ؟! أليست تقانة عمله ومهارته حتى لايسقط سطح البيت على رؤوس أصحابه مهنة إنسانية ؟! أليس عمل اللحام أو الجزار عملا ً إنسانيا ً عندما لايبيعك اللحوم الفاسدة .. ؟! إن كل عمل يتعلق بالإنسان وحياته هو عمل إنساني حتى طب البيطرة هو إنساني طالما الإنسان يستفيد من الحيوانات الصحيحة الجسد .. ولكن لنفترض جدلا ً .. أن الطب هو المهنة الإنسانية التي تأتي على هرم الإنسانيات .. ولنعتبر جميع المهن الأخرى مهنا ً نباتية.. عدم المؤاخذة !! وقبل أن تعتبروني منظرا ً في هذا المجال أود أن أقول كلمة .. أنا من أكثر الأطباء وقوعا ً في الخطأ الطبي .. ولكنني من أكثر الأطباء تحاشيا ً للوقوع في هذا الخطأ مرة أخرى .. فأنا طبيب أعمل في الريف وعلى هذا فأنا أستقبل جميع حالات المرض بدءا ً من الكريب .. حتى السرطان وعلي تجاوز أخطار كثيرة … فالعيون عليك .. ويحب أن تتصرف بدون أجهزة مساعدة كالأشعة والإيكو والتحاليل المخبرية …. ولهذا قد أقع في الخطأ .. ولكن أتعلم من خطئي ولا أرتكبه مرة أخرى .. بيد أن السؤال الإنساني .. لماذا يتصرف بعض الأطباء بطريقة لا إنسانية ؟! ولماذا يقعون في الخطأ ذاته .. هل هذا ناتج عن سلوك أصبح عادة لديهم .. أم هو جهل في المعلومات الطبية .. أم هو الجشع الذي يلغي صفة الإنسانية عن هذا الطبيب؟.. والأمثلة التي سأذكرها هي حقيقية .. فعلى سبيل المثال هناك أطباء كثر يقومون بإجراء تحليل مخبري لحمض البول ( أسيديوريك) ومع أنه ضمن الحدود الطبيعية إلا أن الطبيب يصر على أن الآلام المفصلية التي يعاني منها المريض هي بسبب ارتفاع حمض البول .. مع العلم أن هذا المرض يدعى ( داء الملوك) لكثرة ما يتناول الملوك من لحوم .. ولكن من يستطيع أن يتناول اللحوم يوميا ً بسبب غلاء اللحمة ؟! ولنعد إلى الجهل والجشع .. وإلى المثال التالي : وعندما يعاني مريض من إمساك مفاجىء أو نزيف هضمي سفلي .. فيجب أن يجرى له تنظير هضمي سفلي.. أو صورة ظليلة .. على الأقل .. وقد قمت بإحالة مريضة إلى أحد زملائنا لإجراء تنظير هضمي .. فقام الطبيب بإجراء صورة إيكو وهذا إجراء خاطىء.. لأنه لايظهر الورم المسبب للإمساك .. ثم طلب من المريضة إجراء تحاليل مخبرية في المخبر وربما يجهل هذا الطبيب أن استغباء الناس بات عادة بائدة .. فما دخل التحاليل الدموية بالإمساك المرافق للنزيف الهضمي ؟! وسأعتبر نفسي جاهلا ً لهذه المعلومات الطبية فما علاقة هرمونات الغدة الدرقية بذاك المرض ؟! بل ماهي العلاقة الطبية بين هذا المرض وبين تحليل البول والراسب ؟! من المحال ألا يعرف ذاك الزميل هذه المعلومات ؟! وإن كان يعلم فتلك مصيبة .. وإن كان لايعلم فالمصيبة أخطر !! ثم اختتم عبقريته الطبية بالطلب من المريضة أن تراجعه بعد قترة لإجراء تنظير هضمي سفلي إن لم تستجب على دواء “المسهل “!! بالطبع أهملت المريضة نفسها لتتفاقم معها أعراض المرض .. حتى تم اكتشاف الورم الخبيث بعد عدة أشهر عند طبيب آخر وهو يقدر إنسانية هذه المهنة حق تقدير . فشكرا ً للزميل الأخير .. لأنه يذكر قسم ( أبو قراط) وهو أب الطب .. وشكرا ً لكل طبيب تمنعه أخلاقه من ابتزاز المريض .. وأحني هامتي احتراما ً لكل طبيب .. لايرى في المريض منظر المال .. بل شكرا ً لكل طبيب يستقبل مريضه بابتسامة أبوية حنونة.. لأن ابتسامته هي نصف العلاج والحديث لاينتهي .. عندما يصف الطبيب لطفل مصاب بالرشح ستة أنواع من الأدوية !! فمعظم أمراض الأطفال لاتحتاج إلا لدواء خافض للحرارة وإلا كيف كان يشفى الأطفال من الأمراض منذ مئات السنين ؟! وأخيرا ً لايظنن أحد أنه عبقري القرن حين يستعرض حفظه وذاكرته للأدوية بل شكرا ً للعلماء الذين اكتشفوا اللقاحات .. وهم الآن تحت الثرى .. وهم الذين قدموا للبشرية أعظم هدية مجانية .. بل أعظم بكثير مني أنا الذي أتذاكى بوصف عشرات المستحضرات الكيميائية .. وربما أجهل الآن مثل معظم الأطباء ماهي جرعة الأسبرين الحقيقية المضادة لتكدس الصفيحات أي الجرعة ( المميعة للدم ) .. ولكن بالتأكيد ليست 81 ملغ يوميا ً !!.
د . نصر مشعل