لا يُمكن لمنْ يعرف الشاعر المرحوم : عمر الفرَّا أن ينساه ؛ فقد كان له حضور لافتٌ ، وشخصية مُحبّبة تدخل إلى قلب الآخر ؛ ليعلق فيها ، وقد مكَّنتني معرفتي الشخصية بالشاعر ـــ على الرغم من فارق العمر بيننا ـــ بحكم علاقة الجوار ـــــ مثلما ارتبطنا بأخوَّةِ رضاعةٍ على شقيقتي الكبرى التي تُجايله حينما كان الأهل متجاورين في بناء مشترك قبل أن يستقلَّ كلٌّ في منزل منفرد . وعندما بدأت غواية الشعر تجذبني إليها بدأت تتعمّق معرفتي به ، وكنت في بداية دراستي الجامعية وقتذاك في اختصاص اللغة العربية التي لحق بي في التخصّص ذاته كلٌّ من زوج الشاعر ، وكذلك ابنه البكر : نزار الفرّا الذي أصبح فيما بعد أبرز الإعلاميين في التلفزة السورية ، وله برامج ذات انتشار جماهيري واسع ،وقد دامت علاقتي بالشاعر المرحوم : عمر ، وما انقطعت تلك الصلة التي استمرّت قرابة ربع قرنٍ ؛ فكان أخاً وصديقاً مُقرَّباً إلى أن تغيّرت الظروف في العقد الأخير، فرحل كلٌّ منا في سبيل ، وانقطعت الأخبار ، وقد قُدّر أن يتوفّاه الله من دون أن نلتقي في آخر عشر سنوات .
عُرِف الشاعر المرحوم : عمر الفرّا بالشعر ذي اللهجة البدوية ، وهو أحد أنماط الشعر الشعبي المُتداول في الموروث الأدبي فيما يُعرَف بالزجل ، وقد حاول بهذا الأسلوب من التعبير أن يُحقّق جماهيرية منقطعة النظير ربَّما لم يحظَ بها شاعرٌ آخر في هذا العصر ، ولعلَّ من أهم عوامل تلك الجماهيرية تعود إلى سببين رئيسيين : السبب الأول موضوعي ، وهو يعود إلى حُسن اختيار الشاعر إلى ذلك النوع في التعبير ؛ فاللهجة البدوية لهجة غالبية السكان في الوطن العربي ، وهي لهجة الفصاحة والعروبة التي ارتبط بالصحراء العربية ، وما تُمثّله تلك الصحراء من ارتباط بالذاكرة الجمعية المحببَّة لدى عامَّة الجماهير العربية . وقد كان اختيار الشاعر هذا النمط في التعبير يعود إلى رؤيته في هذا المجال التي ترى أنَّ محاولة الشاعر المعاصر للتفرّد والتميّز تبدو مسألة شبه مستحيلة ، إذ يقتضي ذلك من الشاعر المعاصر أن يدخل في محاولة سباقٍ غير مضمون النتائج لو أنه كتب في الشعر العربي الفصيح ، وهو ما يستوجب أن يتجاوز كل ما قيل في الشعر العربي منذ امرىء القيس حتى امرىء هذا العصر ، وهو ما يبدو عملاً يقوم على مغامرة ورهانٍ خاسرين ، وكان مُحقّاً في ذلك الموقف، وتلك الرؤيا .
السبب الثاني : ذاتي ، ويمكن أن نُشعّب القول في هذه الذاتية إلى جمالية الإلقاء التي كانت سمة أسلوبيةً من سمات النطق لدى الشاعر تفنَّن الشاعر فيها ، وامتلك مهارة نادرة في فنِّ الإلقاء ، ومن غير الخفي أن الشعر نصفه إلقاء ، ولا يغيب عن البال في هذا السياق تفضيل الجماهير شعر حافظ إبراهيم على شعر أحمد شوقي عندما كانوا يستمعون إليهما ؛ فيما كان ذلك التفضيل ينعكس لصالح أحمد شوقي لدى قراءة تلك القصائد ، ولذلك كان الإلقاء سبباً من علو القصيدة واستحسانها لدى الناس ، أو في خفض قدرها ، إلى جانب ذلك فقد كان اختيار الشاعر الموضوعات التي تمس طبيعة الحياة ، وتُلامس مشكلات الجماهير الأكثر تداولية ، وبذلك نجد أن قصائد الشاعر الفرّا إنما هي في حقيقتها حكايات حقيقة مستقاة من الواقع الذي عاشه الشاعر ، وعانى بعض تجاربه في الحقيقة .
وأشير في هذا السياق إلى أنَّ قصيدة : (حمدة) التي كانت سبباً في شهرة الشاعر ، وذيوع نجمه هي في الحقيقة قصة حقيقية سمعها الشاعر مما كانت ترويه له والدته ، وهي قصة شابة ظلمت بسبب رفضها الزواج ممن لا تحب ، وحاولت أن تقول : لا في وجه العادات والتقاليد الاجتماعية وقد تنوّعت قصائد الشاعر في موضوعاتها ما بين الشعر الاجتماعي والوطني كما في قصيدته التي وسم ديوانه بها : ” الأرض إلنا ” الأرض إلنا الأرض إلنا حفرناها بأظافرنا ، كما كان الهمّ القومي أحد شواغل الشاعر الشعرية في قصائده مثلما كانت قضية فلسطين قضية حاضرة في شعره ، وكذلك قضية الصراع العربي مع الكيان الصهيوني ، كما أشاد بانتصارات المقاومة في جنوب لبنان ، إلى جانب استدعاء شخصيات ومحاورتها في إسقاطات على الواقع العربي المأزوم من مثل قصيدته : “عرار”
وقد تنبَّه الشاعر إلى مسألة اللغة التي استخدمها في صياغته الأسلوبية ، إذ إن لغة الشاعر لم تكن لغة متقعرةُ في بداوتها ، بل حاول أن يُحضّر اللغة البدوية ، ويًلبسها ثوب المعاصرة من غير أن تفقد ارتباطها الجمالي باللغة البدوية ، وارتهانها الفنيّ ، وعلى سبيل المثال يستخدم الشاعر لفظ الشفاه ، وهي لفظة غير متداولة في اللهجة البدوية ، وفي سؤال لي عن تلك الظاهرة كان ردّه أنه يُريد أن يكون شعره مفهوماً لدى كل العرب من المحيط إلى الخليج ، وربّما كانت غلبة شهرة الشاعر بالشعر البدوي قد جعلت منه شاعراً باللهجة البدوية غير أنَّ ما لا يعرفه كثيرون أنَّ الشاعر كان يكتب الشعر الفصيح ، ولديه ديوان شعري عنونه بـــ :
( الغريب ) وكان الشاعر قد اطلعني عليه في مخطوطته الأولية ، و أسهمت في انتقاء بعض رسومات تعبيرية للقصائد فيه ، ومن هذا الديوان قصيدة ما زال في ذاكرتي مطلعها الذي يقول فيه :
حدَّثتْني عيناكِ سبعَ لغاتٍ
د. وليد العرفي