تحية الصباح .. من الذاكرة 71

يوم الموسيقا الآليّة

أسبوع الثقافة الموسيقيّة الذي تحدّثنا عن بعض ما احتواه، نتج عنه يوم ” للموسيقا الآليّة”، وفي هذا اليوم كانت النوادي والفرق تُقدّم مقطوعات موسيقيّة، كالبشارف، والسّماعيّات، والمقطوعات الموسيقيّة لكبار الموسيقيّين، وظلّت الجهات المقدِّمة محافظة على أصالة الطرب، وروح الموسيقا المعبِّرة، وشاركت في ذلك فرقة نقابة الفنّانين المركزيّة في دمشق، وكان من أبرز من أضاء المسرح بأنوار عزفه الفنّان مروان غريبة عازف الكمان المشهور، ورياض فاخوري عازف القانون، وأبو رسول السراج عازف النّاي المعروف.

-كرّم أسبوع الثقافة الموسيقيّة معظم مَن غنى في النوادي، حتى الذين اعتزلوه، وما أذكر أنّ اسما من أسماء المغنّين المعروفين في حمص لم يُكرَّم، الحاج ممدوح الشلبي، ياسر السيد، عبد الوهاب الفصيح، برهان الصباغ، وأسماء أخرى.

وما دمنا ذكرنا ممدوح الشلبي فسأفرد له بعض المساحة، فهو عازف عود بحساسية خاصّة، وصوته فيه الكثير من الشّجن، ويقارب هذه السويّة مزاجه، فهو لا يمسك العود إلاّ إذا كان مرتاحاً لكلّ الموجودين، وكان ضنينا بالغناء إلاّ في جلسات خاصة مع بعض الأصحاب والأصدقاء، وكان لا يعجبه إلاّ النّادر ممّا يُبث في التلفزيون والإذاعة، ويُروى أنّ فريقا من التلفزيون جاء إلى حمص، واستطاع الحصول على فيديو بصوت الشلبي، فأخذوه ليستفيدوا منه، ويبدو أنّ أحداً ما قد نقل الخبر إلى الحاج ممدوح، فاستأجر سيارة ولحق بسيارة التلفزيون قرب بلدة حسياء، فأوقفهم ولم يتركهم حتى انتزع ذلك الفيديو .

-لعلّ من أبرز الذين كُرموا الموسيقار وعازف البزق الشهير محمد عبد الكريم،  وفي يوم تكريمه احتشدت القاعة بالحضور، وحين دخل قاعة دار الثقافة وقف الجمهور يصفّق له، وهو بقامته الصغيرة، يرفع عصاه صعوداً وهبوطاً رادّاً التحيّة، ورُفع الستار عن تمثال له، وقدّمت فرقة نادي دوحة الميماس سماعيّاً من تأليفه، وغُنّيت أغنية ” رقّة حسنك وسمارك”، وهي من ألحانه، وبقي في حمص أكثر من ثمانية أيام، وكان مستضيفه، وصديقه المرحوم محمود فاخوري، وهو عازف عود أيضا، وله صلة عميقة بالموسيقا، وكان ممّن استضافه في بيته صديقنا الدكتور جميل الحايك، في بيته، في حيّ النّزهة، وكنتُ أحد المدعوّين، وخلال السهرة استأذن أحد الموجودين أمير البزق بأن يُسمعه صوتاً حاضرا بيننا، وانطلق صوت عذب وجميل يشدو بأغنية ” ياطيور” للمرحومة أسمهان، وهي من أصعب الأغنيات، وتحتاج إلى حنجرة قويّة، وذات حساسية، في الصعود والهبوط، وفي الصوت المستعار، وحين انتهت من الغناء صفّق لها الأمير، وأذكر بعد سنة أو أكثر كنتُ في دمشق، والتقيتُ به، وفورأ سألني عن تلك الصبيّة التي غنّت أغنية ” ياطيور” ممّا يدلّ على عمق الأثر التي تركتْه فيه،

في تلك السهرة وقد شرّقنا وغرّبْنا في الأحاديث، وكنتُ قد سمعتُ أنّ جيران الأمير في دمشق يضايقونه برفع أصوات المسجّلات بالغناء الهابط، ليترك الغرفة التي كان يستأجرها منذ زمن طويل في ” عين الكرش”، فقلتُ له:” يا أمير، إنّ بعض الذين لا يصلون مكانتك  حين أوصلوا صوتهم إلى جهات عليا، -استجابت لهم، وحُلّت مشاكلهم، فلماذا لا توصل صوتك إلى تلك الجهات ؟!! قال :” يا أستاذ، إذا كان لمن ذكرتَ حاجة عندي فليتّصلوا بي، أنا لا أتّصل بأحد”، فعجبتُ لهذه الأنفة والكبرياء،

وفي تلك السهرة أردتُ التأكّد من أمر يُروى عنه، فقد قيل أنّه دُعي إلى دار الأوبرا في إيطاليا، وكانت القاعة محتشدة، وحين دخل بقامته الضئيلة، وحدَبة في صدره، وأخرى في ظهره، وهو يحمل البزق، حدثت همهمة لم تخل من استخفاف، فوصله ذلك، فقرّر أن يفرض احترامه، فخلع نعل رجله اليمنى، وجرابها، وجلس على الأرض، وأمسك بريشة البزق بإبهام وسبّابة رجله، وبدأ يعزف النشيد الوطني الإيطالي، فوقفت القاعة احتراماً للنشيد، وفوجئوا بما واجههم به، فصمت كلّ مَن في القاعة وقدّم وصلته في العزف،.. سألتُه عن هذه الحادثة فأكّدها لي،

رحم الله العبقريّ الفذّ محمد عبد الكريم، وسقى تلك الأيام سحائب الرّضى…

  عبد الكريم النّاعم

aaalnaem@gmail.com

المزيد...
آخر الأخبار