لمْ أُصدّقِ الخبر عندما هاتفني أحد الأصدقاء يُعلمني بوفاة المرحوم : محمد بري العواني؛ فقد كان خبر رحيله مفاجئاً ؛لما اختزنته الذاكرة عنه من قوَّة بدنية ، وصحَّة جسدية ، وإشراقة وجه لم يبدُ عليه أي مظهر من مظاهر التعب ، ونبرة صوت كانت هي الأخرى دليل حيوية الرجل الذي طالما شاهدته مُتأبّطاً حقيبته في أحياء المدينة بقامته السامقة التي كانت كالسنديان الذي يمشي على الأرض ، من عرف هذا الرجل عن قرب لا يُمكن له أن ينساه ؛ فهو إنسان يبادرك بالابتسامة الودودة التي تُشجعك على طلب ما تريد من دون أن تجد نفسك في حرج من سؤال أو من تعدد المطالب ، وتنوع الأسئلة ، ومما يذكر لهذا الرجل أنه متابع لحركة المدينة الثقافية والفنية على مدى عقود ما تزال راسخة فيه تلك المسيرة ، إنه الإنسان الراقي بخلقه ،وسلوكه يعرف مقامات الناس وقاماتهم ، ولا يُنكر أدوارهم ، أذكر أنه حينما قدَّمني ــ رحمه الله ــ في نشاط من نشاطات اتحاد الكتاب العرب الذي كان هو عريف حفل الأمسية قال في ذلك التقديم : ” لقد آثرت على نفسك كثيرين ؛ فقدمتهم على نفسك، وها هم اليوم قد سبقوك وتجاوزوك ، فآن الأوان لتقدم نفسك ” ، وهذا الموقف للراحل إنْ دلَّ على شيء ؛ فإنما هو دليل على نبل إنساني ، وكرم منبت ، وسمو أخلاق .
لقد تعددت أنشطة المرحوم : محمد بري العواني، فقد كان موسيقياً مولعاً بفنونها التي كانت تُمثّل فرقة نادي دوحة الميماس ــ الذي ترأسه عقدين من الزمن ــ تعبيراُ عن الوجه المشرق والباعث للجمال في مدينة حمص قبل أن تصمت تلك الدوحة عن أنغامها بفعل الحرب ، وقد كان إيمانه الراسخ بدور الفن على أنه خير وسيلة تُهذّب النفوس ، وتسمو بالأرواح أنه أعاد الدوحة إلى غنائها بمجرد استقرار الأمور ؛ فكانت عودة دوحة الميماس عودة حياة إلى المدينة ، ونشر مظهر من مظاهر الفرح ، وبعث جديد في الأرواح التائقة إلى الحب والسلام
لم يكن رحمه الله مُجرَّد إنسان مُحبٍّ للموسيقى وآلة الكمان التي أحبها وحسب ، بلْ كان رجلاً تُدهشك فيه موسوعيته التي طالما كانت تلفت النظر في مداخلاته أو تعقيبه سواء ما كان عن المسرح أو الموسيقى ، وكذلك في الأدب على اختلاف أصنافه وتنوع أشكاله ، إذْ كان يُثير قضايا من صميم الموضوع المطروح ما يُضفي على المحاضرة ، أو الأمسية إضافات جماليات تحسب .كان المرحوم : محمد بري العواني يمتلك لغة جميلة تلفت سمع المتلقي ، بما في نبرته من سرعة تدفق مسبوك بسلاسة فكر ، وتسلسل منطقي لا يمكنك إلا متابعته والإصغاء إلى ما يقوله من دون أن تشعر بمرور الوقت ، وهو ما كان واضحاً في لقاءاته سواء ما كانت مشاهدة مباشرة في لقاء مفتوح مع الجمهور،أم ماكانت عبر الإذاعة ، فرحم الله محمد بري العواني الذي رحل عن دنيانا الفانية ، وخلفه من الذكريات ما لا يُعدُّ ولا تُحصى .
د. وليد العرفي