“تحية الصباح”…. بيروت ستنهض

قال: بيروت تحترق.. قلت: وهل بقي شيء في بيروت، لم يشتعل ويحترق بعد؟ قال: بيروت تحترق قلت: ربّما تحترق اليوم، لتولد من جديد، وليظهر فيها الإشراق، ولون السّماء، ربّما تموت لتحيا ثانية، بوجه جديد، وميناء آخر!

قال: بيروت تحاول العودة إلى الأصل، إلى الينبوع! قلت: عودة معافاة، وأقول: إنّ انسلاخ بيروت عن محيطها العربي لسنوات، هو الذي أدّى إلى هذا الاحتراق، وهذه الكارثة! قال: كلُّ شيء في بيروت يستغيث، يستصرخ: وادمشقَاه، واعرَباه.. قلت: قلب دمشق مع بيروت، هي أختٌ لها منذ الأزل، وفجيعتها الأخيرة، أدمت قلب دمشق، وقلوب العواصم الأخرى.. قال: كانت الحياة في بيروت موّارة بالحياة والنّشاط والفرح، ينعم أهلوها بالرّفاه والانشراح، أمّا اليوم، فقد طُلسِم وجه فرحها، خيوطها تشابكت، أوراقها اختلطت، كلّ شيء فيها بعد الكارثة، بدا حزيناً ممتقعاً، لونه لون العزاء! قلت: دفءُ بيروت كان صقيعاً، ورفاهها كان زيفاً، بل كان خداعاً مريضاً، أعمى البصر والبصيرة، فكانت الكارثة الفجائعيّة! قال: الجحود بالكثير من القيم الصحراوية المُثلى، هما من العوامل التي أوصلت بيروت الأرْز والثقافة والمقاومة والأدب والسياسة، إلى أنْ يلتذّ بعضٌ من أصحابها بمشاهد الدّمار والهدم ولهيب الحرائق، وبصور الجثث والضحايا، وأنهار الدّم المسفوح.. قلت: كأنّك يا صاحبي تغرف كلماتك من شغاف القلب، وعصب الرّوح.. قال: “الجراد” في بيروت يلتهم كلّ شيء، اليابس والأخضر معاً، بلا أدنى حسّ، أو قُلامة خجل.. قلت: وأين الذين يدفعون “الجراد” المُتوحّش عن أرضٍ طيّبة، نبت فيها شجر الزيتون والبرتقال والأرْز، وعاش أهلوها في ما مضى آمنين مسالمين! قال: تعيش بيروت على صفيح ساخن منذ اغتيال رفيق الحريري، في العام 2005، ولا يزال الصّفيح ساخناً، لونه لون الجمر… قلت: ولِحساب مَنْ تذهب تلك الضحايا؟ ولِحساب مَنْ تكون حصائل التفجيرات والاغتيالات؟! صور كارثة مرفأ بيروت الأخيرة، كانت فوق البشاعة، فوق التصوّر، فوق منسوب الفاجعة، ففيها تحوّل النّغم الطفوليّ إلى وجعٍ “مُموْسَقٍ” لا مثيل لمعزوفته الحزينة، تحجّرت عيون الأطفال، الصّدمة كانت فوق التصّور، سُرِقت من عيونهم مفاريح الطفولة، تشظّت أنباض الفرح، بعدما مات عدد جمّ من الأطفال، داخل منازلهم، أو من جرّاء التفجير الإجرامي المُبيّت، ذابت أجسادهم الطريّة المُنمنمَة تحت سنابك الخيل، خيل “هولاكو” الجديد، و”التّتار” المُتوحّشون! قال: لقد اعتدى الغوغائيّون على حُرْمَة بعض الوزارات ببيروت، فكسّروا وحطّموا، ونهبوا وسرقوا، فأيّ شعب حضاريّ هذا الذي فعلَ ما فعل؟ قلت: يا ابن وطني، ويا شقيقي، الجرح العربيّ واحد، والألم العربيّ قاسم مشترك، يجمعنا طُرّاً في بوتقته، والرّصاصة الإسرائيلية السّوداء كقطرانِ أدمغتهم، لا تفرّق بين سوريّ ولبنانيّ، ولا بين ليبيّ ومصريّ، ولا بين سعوديّ ويمنيّ، فكلّ العرب في صميم القضيّة أعداؤهم وخصومهم.. قال بنفحة من التفاؤل: غمامة صيف وتزول، إذا التأم الشّمل، والتحمّ الصفّ،  لكن إذا ما بقينا ضائعين في متاهات المناكفات والصّراعات والتّجاذبات، فستغدو الغمامة غيماً مُطبِقاً بسواده الفاحم على أرضنا الغالية، من الماء للماء! قلت لصديقي المُحاوِر: سوداويّة نظرتك إلى الدنيا، وضبابيّة أفكارك، يأسك قاتل، كنْ أكثر تفاؤلاً، (ما أضيقَ العيش لولا فسحةُ الأمل)! ليكن التفاؤل بالمستقبل خيمة ظليلة كلّما لفحتك شمس الصيف القائظ، أو كلّما هبّت عليك رياح السّموم.. وقلت: يأسك  يعيد إلى ذاكرتي موجة الرّعب المشؤومة، التي فاجأت أمتنا بالهجمة الحزيرانية الصهيونية المباغتة عام سبعة وستين، ولو بقينا على حالة يأسنا سنتئذٍ، لما جاءت الضربة التشرينية العظيمة.. وأضفت: حتّى لو امّحت كلّ ملامح بيروت، التي دُمّر شطر منها بفعل هذا الانفجار المُدوّي، فإنّها لا بدّ عائدة إلى الحياة من جديد، وستغدو أصلب عوداً، وأقوى قناة من ذي قبل، بيروت الوطن، بيروت الصّمود، بيروت الأدب والطباعة والثقافة والسياسة والفكر، بيروت جبران، وفيروز، وميخائيل نعيمة، ورشيد كرامي، وإيميل لحود، وسمير القنطار، وموسى الصّدر، وعماد مغنية، بيروت الصّبر، والتحدّي، والبناء، ونسغ المقاومة…           

وجيه حسن