مما ترويه كتب التاريخ أنَّ الخليفةَ عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يقول : (من ولدي رجل بوجهه شجّةٌ يملأ الأرض عدلاً )
وقد ضربت دابَّةُ جبهةَ عمر بن عبد العزيز حفيد ابن الخطَّاب ، فأشجَّتْ جبينَهُ ، فراح أبوه يمسح الدَّم عن وجهه ، وهو يقول : (إن كنت أشجَّ بني أميّة إنّك لسعيد ) وصدقت رؤية الخليفة : عمر بن الخطاب وتولَّى حفيده : عمر بن عبد العزيز الخلافة التي عادت في عصره إلى سابق أيّامها زمن الخلفاء الراشدين ، حتَّى لُقّبَ الخليفة عمر بن عبد العزيز بالخليفة الراشدي الخامس رغم تباعد الزمن عن حقبة الخلفاء الراشدين الأربعة السابقين : أبي بكر الصّدّيق ، وعمر بن الخطَّاب وعثمان بن عفَّان وعلي بن أبي طالب كرَّم الله وجهه ، ورضي الله عنهم جميعاً ، وقد نقل المأثور عن سيرة الخليفة عمر بن عبد العزيز العدلَ ، فكانت الشاةُ ترعى جانب الذئب فلا يؤذيها ، وقال موسى بن أعين : ( كُنّا نرعى الشاة بكرمان في خلافة عمر بن عبد العزيز ، فكانت الشاة والذئب ترعى في مكان واحد ، فبينا نحن ذات ليلة ، إذْ عرض الذئب للشاة ، فقلت : ما نرى الرجل الصالح إلا قد هلك ، فحسبوه ، فوجدوه مات تلك الليلة .
هذا هو الخليفة الذي استطاع أن يرسي قواعد العدل ، ويجعل الجميع سواسيةً أمام الشرع ولذلك لم يرقْ للمتضرّرين من أبناء السادة الذين أبعدهم عن ملذّات الحياة ، وألجم أطماعهم بمكتسبات السلطة وأواصر النسب ، وعلاقات القرابة ، إذ جرّدهم من كل تلك المزايا ، وساوى بين العامة من الناس وبني أمية ، مثلما عامل بميزان عدله الفقير كما عامل الأمير ، ما جعل بني أمية يكيدون لـ عمر بن عبد العزيز ــ الذي أبعدهم عن كلّ تلك المظاهر من السلطة التي كان أزهد الناس فيها ــ وأمام أطماعهم في الدنيا ورغبة في استعادة ما لهم من نفوذ ، ومنافع لا تعدُّ ولا تحصى راحوا يدبّرون للخليفة العادل المكائدَ حتى استطاعوا أن يغرّروا بأحد الغلمان عنده بالمال ووعدهم إياه بعتقه مقابل أن يدسَّ السّمَّ للخليفة ، وهكذا كان ، وكانت نهاية الحقبة الراشدية التي حاول هذا الخليفة أن يرسي قواعدها ، ويبعد كلّ فاسد عن حكم الدولة العربية الإسلامية القائمة التي أرادها أن تكون دولة عدل ، لا دولة استئثار بمنافع شخصية لفئة من الأقارب من بني أمية ، وقد أدرك الخليفة الذّي شرب السُّمَّ أنه ميْتُ ، فماذا كانت ردَّة فعله تجاه من دسَّ السُّم له , وأيُّ تصرّف قام به تجاه قاتل كان من غلمانه ؟
قال أحدهم : قال لي عمر بن عبد العزيز : (ماذا يقول الناّس فيَّ ؟ قلت : (يقولون : مسحور ) . قال : (ما أنا بمسحور ) وإنّي لأعلم الساعة التي سُقيت فيها ، ثم دعا غلاماً له فقال : ويحك ! ما حملك على أن تسقيني السُّمَّ ؟
قال : ألف دينار أعطيتها ، وعلى أن أعتق . قال : هاتِها قال : فجاء بها ، فألقاها في بيت المال ، وقال : اذهب حيث لا يراك أحد .
هكذا كان سلوك الخليفة عمر بن عبد العزيز ، لقد حقَّق حلم العتق للغلام ، وسامحه عن فعلته ووضع المال في بيت المسلمين ، فأيّة نفس عظيمة يحملها هذا الخليفة
وقد ذكرت هذه القصة من تاريخنا العربي الإسلامي ، وأنا أرى اليوم كيف غُرِّرَ بأولادنا بالمال وتم شراء نفوسهم ، ففعلوا ما فعلوه ببلدهم ، وجيرانهم ، وذويهم ، وقبل كل أولئك بحق أنفسهم ما فعلوا ، وما أشبه غلام الخليفة عمر بن عبد العزيز بالبعض الذين أغرتهم حفنات الدولارات ، فباعوا أنفسهم لها ، والسؤال الذي يطرح نفسه عن أيَّةِ حُريّةٍ كان يبحث غلام الخليفة ، وإلى أيّة حياة كان يسعى ، وهو يعيش في ظلِّ حكم خليفة عادل ؟!
أليست هي شعارات الحريّة ــ الأكذوبة ــ التي سار خلف بريقها السّرابيّ بعض الشباب الذين أوصلوا البلد إلى ما وصلت إليه ، فما أحوجنا أن نستلهم الدروس من التاريخ ونأخذ العبرة من سير أولئك الذين تركوا لنا حيواتهم منارات تشعُّ لكلّ من يريد أن يبصر الحقيقة كما هي ، وما سلوك الخليفة في التسامح والعفو إلا الطريق الذي تسلكه الدولة اليوم في استعادة أبنائها المُضلّلين والضّالين إلى حضن الوطن .
فما أشبه اليوم بالبارحة ! ــ على اختلاف الزمان ، وتبدّل الشُّخوص ، والمكان ، والسعيد من يتعِظ بغيره .
د . وليد العرفي