جلس وعلى وجهه علامات التجهّم، فسأله:” ما بك؟!! عسى أن يكون خيرا”؟!!
ردّ :” أخاف أن أبدو متشائما إذا قلت:” عن أيّ خيرتتكلّم،؟ يبدو أنّ أزمنة الخير قد ولّت إلى غير رجعة “
قال:” تخاف أن تبدو متشائما، وأنت تقف على ذروة عالية من ذرى التشاؤم”
رد:” أنت تعلم أنني كالوتر المشدود، رغم مظهري الذي يوحي بأنّي متماسك، بل وصلب، وصلني من أحد الأصدقاء على صفحة التّواصل الاجتماعي، مقالا يستعرض فيه خلاصة محاضرة ألقاها أحد ضباط الكيان الصهيوني بحضور حشد من ضباط آخرين، وهذا يشير إلى مدى خطورة الاستهداف، خلاصة هذه المحاضرة أنّ أزمنة الحروب الكلاسيكية قد ذهبت بما فيها، إذ لم تعد مُجدية، وهي ذات كلفة عالية، بشريّاً، ونفسيّا، ومجتمعيّا، وماليّاً، فلم يعد من المفيد ، والكلام لذلك الضابط ، .. لم يعد مُفيداً أنْ نذهب لاحتلال أرض جديدة، ورغم أنّنا،- يعني الإسرائيليين،- قد خضنا العديد من الحروب، فقد تبيّن أنّها تبدو بغير نهاية، ولذا فقد عمدنا إلى إستراتيجية جديدة، وهي إشعال الحرائق في أكثر من موضع في البلدان التي تشكّل تهديدا لنا، وكلّما أخمدها خصمنا في مكان أوقدناها في أماكن أخرى، وهكذا ندفعه لأن يعمل اطفائيّا، فهو يركض من مكان لآخر، في وقت نعتمد فيه نحن على جماعة مزروعة في أرضه، أو نشتريها فندفع لها، أو نزوّدها بشعارات اثنيّة، وطائفيّة، ومناطقيّة، وهكذا يبقى هذا الخصم في ركض دائم، يلهث وراء الأحداث، كلّما أُطفئت نار، أوقدنا غيرها، بينما نحن ننفّذ في مناطق أخرى إستراتيجية مختلفة، تساعدنا لإحداث مزيد من بعثرة القوى التي يمكن أن تشكّل تهديداً لنا”
قال له:” ما من شكّ أنّه كلام يحتاج إلى مزيد من الانتباه، وبظنّي أنّ هذه الإستراتيجية ليست جديدة، بل متّبعة من قِبَل العدو الصهيوني منذ أن تم زرعه في أرضنا ، ولقد كان أوّل اختراق نوعيّ، مؤسِّس هو اتفاقيّة كامب ديفيد التي وقّعها السادات ، فهي أمّ الكبائر السياسيّة في العصر الحديث للعرب، ولكي نُدرك حجم خيانة السّادات علينا تصوّر لو أنّ مصر لم تنزلق ذلك المنزلق، هل كانت مشيَخات الأعراب تتجرّأ على ما أقدمت عليه من علاقات علنيّة؟، صحيح أنّ علاقات هؤلاء السريّة كانت موجودة منذ أزمنة، بيد أنّها بخروجها للعلن تزيد في توهين بعض العزائم، ولهذه المسألة آثارها النفسيّة المُحبِطة، وإذا استعرنا المصطلح الخلدونيّ في العصبيّة، فإنّ عصبيّتنا الآن ليست للعشيرة، ولا للقوم، لاسيّما في الوقت الراهن، بل لعصبيّة “المبدأ النضالي” في مواجهة الهجمة الصهيوأمريكيّة.
تعال يا صديقي لنرجع للوراء قليلا، فمنذ احتلال بغداد بدأت أزمنة جديدة بالنسبة لمسألة الصراع العربي الصهيوني، ولم يثبت في الميدان إلاّ حلف المقاومة الذي واجه من المشكلات المُفتعَلَة الكثير هنا وهناك، واستُهدفت سوريّة لأنّها عمود خيمة المقاومة، وكان لا بدّ من إقامة تحالفات جديدة، تستند إلى المبادئ، أيّ أن حلف المقاومة، من النّاحية المبدئيّة له أهداف واحدة، وهذا ناتج عن رؤية تحليليّة واحدة للأحداث، ولتتابعها، وعن وعي للخطر الواحد الذي يتهدّدنا وها قد مرّت عشر سنوات، وعلينا أن ندرك بمسؤوليّة عميقة أنّ هذه النّار التي أوقدوها، قد يحتاج إخمادها إلى زمن، وهذا يتطلّب أن تكون ثمّة نقلة جديدة في منظور البنية الداخليّة، أعني أن نبادر إلى ابتكار حلول جذريّة وحاسمة على المستويات الاقتصاديّة، والاجتماعيّة، والثقافيّة، وأن يكون الذين يواجهون معركة البناء الداخلي بمستوى ما أنجزته قوّاتنا المسلّحة ، وما ذكرتَه يؤكّد أنّه ما من أمل في أيّ سلام في هذه المنطقة ما دامت الغدّة السرطانيّة الإسرائيلية موجودة.
إنّ الخراب الذي نشرته مؤامرة الإخوان، والدواعش، وأردوغان يحتاج إلى أساليب مُبتَكرة، وإلى خطط بعضها إسعافي، وبعضها الآخر استراتيجي، وأن يُستأصل الفساد بحزم حيث كان، وأن يكون الأكفأ هو مَن يؤخَذ لتنفيذ شيء من تلك المهام، إنّها أزمنة صعبة بحقّ، ولكنّها ليست عصيّة على الكسر…
عبد الكريم النّاعم