-بعد أكثر من سبع سنوات استطعنا الحصول على مسجّلة بحجم الكفّ، خاصة بتسجيل المقابلات الاذاعيّة، وبذلك ارتاح صديقنا محمد الفهد من حمْل تلك العَتْلة، وسُجّلت المسجلة على ذمّة مهندس الصوت طلحة مهرات، وتعهّد بإيداع المسجلة القديمة التي أملكها لدى أحد الجهابذة في التصليح، وقد ضاعت بين رُكام موجوداته.
– بعد متابعة وملاحقة من أجل عزل الاستديو، جاء أحد المتعهّدين من دمشق، وحمَلْنا كلّ ما يلزمنا إلى الطابق الثالث في مبنى التلفزيون بالقلعة، وتابعنا التسجيل في فضاءات مفتوحة، ريثما ينتهي عزل الاستديو، وكانت قيمة التعهّد أربعة ملايين ليرة ، وقال مهندس الصوت في حمص إنّه ينفّذه بمبلغ أربعمئة ألف ليرة، وبجودة عالية، ولكنّ الخفايا، كما يبدو، غير ما نعلم، وبقينا بضعة أشهر حتى انتهى تجديد الأستديو، وحين عدنا إليه لفتَنا الشكل الجديد، ولكلّ جديد لذّة، كما يقولون، وحين بدأنا التسجيل وجدنا أنّ الأصوات المرتفعة في الطابق الأوّل مازالت تصلنا، وشُكّلت لجنة لاستلام الاستديو، والموافقة على سلامة شروط التّنفيذ، وكان أحد المهندسين العاملين في مركز البثّ التلفزيوني في القلعة عضوا فيها، وقد أسمعتُه بأذنيه كيف أنّ العزل غير منفّذ، ووقف يُعارض المصادقة على سلامة الشروط، وظلّ لفترة على موقفه ثابتاً، وبين عشيّة وضحاها سمعنا أنّه وقّع على الاستلام كما هو، نزولا عند رغبة ما ، لانعرف ماهي؟!!
– ذات يوم اتّصل بي مدير الإذاعة، وكان طيّب الذكر نايف حمّود، وقال لي ما مفاده أنّ ثمّة مطالبات من محافظات أخرى، لتخصيص برامج لها أسوة بحمص، وحلب، واللاّذقيّة، ولذا طلب منّي تغيير اسم البرنامج، ليُصبح برنامجاً من إعدادي، فقلت له على الفور سأسمّيه ” آفاق”، وابتداء من ذلك الوقت غيّرنا شارة البرنامج، ولم نبدّل شيئا في مضامينه، وفي اهتماماته،
– ظلّت الأمور تجري في سياقها الذي اعتدناه، ورسمنا خطواته، حتى كُلّفت إحدى المذيعات بإدارة ما كان يُسمّى إذاعة” صوت الشعب”، والتي نحن في المحافظات من فضاءاتها، وكانت تلك السيّدة مفتونة بالبرامج الخدميّة، بدأتُ أشعر، عبر الزيارات التي زرتُها خلالها بأنّ ثمّة تغيّراً خفيّا ما يكاد يبين، فتجاهلت ذلك،
في إحدى الزيارات لها قالت لي:” أوَلا تلاحظ أنّ الغناء الريفيّ الذي تبثّه ملئ بالحزن”؟
قلت لها:” يا مدام، ما ذا أفعل إذا كان ذلك هو أحد محاور هذا الغناء المُتوارَث منذ قرون، شرائح اجتماعيّة لم تعرف الفرح إلاّ عابرا، وطارئا، من أين تأتي بالفرح،” علما أن مدّة الغناء الريفي المخصّصة يوميّا لم تكن تتجاوز الثلاثة دقائق، كحدّ أعلى،
ثمّة شيء غير مريح في العمل مع هذه السيّدة، لا أدري ما ذا تريد، فتجاهلتُ ذلك.
بدأت الازعاجات تكون أكثر حضورا، دون أن يتغيّر شيء في وضع بنية البرنامج، وذات اتصال قالت ممنوع عليكم أن تذيعوا أيّة أغنية غير مسجَّلَة في الإذاعة، وكان هذا سدّاً لآفاقنا التي فتحناها، وللخصوصيّة التي تميّز هويّة برنامجنا، علماً أنني سمعتُ من موسيقيّين في إذاعة دمشق، ومن مستمعين لهم أذواق رفيعة،.. سمعتُ الكثير من الثناء على تلك الأصوات التي كنّا نُبثّ غناءها، حتى أن أحدهم قال لي ذات مرّة:” يا رجل من أين تأتي بهذه الأصوات”؟!!
-في غمرة هذه المشادّة التي أفرزته السطحيّة في الفهم، وعدم تمييز الأصيل، وكنتُ قد بدأت أشعر بالبرَم، صدر قرار من وزير الاعلام في ذلك الوقت، مفاده إيقاف جميع البرامج التي يُعدّها مَن كانوا موظفين وتقاعدوا، فخسرت الإذاعة أسماء لامعة، وبعد فترة تبيّن خطأ هذا الخطوة، فقيل لي تستطيع العودة بتوجيه كتاب للسيد الوزير، وهذا ما فعله آخرون، وكنتُ قد عرفتُ معنى الراحة من الملاحقة اليوميّة، وشعرت وكأنّي أمتلك مفاتيح زمن جديد، فرفضتُ الفكرة، وتوقّف البرنامج بعد ستة عشرة عاماً وأربعة أشهر.
عبد الكريم الناعم