قبل أن أدخل في صلب الموضوع لنتذكر جميعاً أن الطبيب هو في النهاية إنسان .. يخطىء ويصيب .. يتذكر وينسى .. يعمل بضمير أحياناً .. وأحياناً بلا أي ضمير ولا رادع .. وللتصويب أكثر .. فإن مهنة الطب هي آخر مهنة بين المهن الإنسانية التي تنحرف عن جادة الصواب والأخلاق .. وذلك في أي مجتمع كان فإذا أصاب الانحراف واللاأخلاق أحد المجتمعات ، فإن الفساد يبدأ بجميع المهن .. إن كان دفعة واحدة .. أو بالتدريج ، ولكن تبقى مهنة الطب حتى المرحلة الأخيرة من الإنهيار .. حيث تنهار القيم القضائية قبل انهيار القيم الطبية .
قد يبدو هذا الكلام قاسياً أيضاً على البعض ولكن علينا تجريد الأمور أولاً ..
ففي أي مجتمع أو بيئة أو كيان اجتماعي مهما بلغ من درجات الحضارة أو التخلف .. فهناك أفراد هم الذين يتحكمون بمصائر هذه الكينونات الاجتماعية .. وهؤلاء الأفراد هم الأثرياء في المجتمع وهذا الكلام ينطبق على جميع المجتمعات والدول مهما كانت التسميات .
هؤلاء الأثرياء هم من يتحكمون بصيرورة قريتهم أو مدنهم أو دولهم أو أقاليمهم .. أو أمصارهم .. أو قاراتهم .. أو واق واقهم .. وهم على استعداد أن يفتك أحدهم بوالده أو أمه كي يبقى مسيطراً على زمام رأس المال .. اعتباراً من أصغر تاجر أو صانع أو مهرب أو مختلس أو حرامي .. أو مجرم .. انتهاء بأكبر مافيات العالم .. وهم الماسونية العالمية ..
وهذه المافيات لا تقتصر على تهريب الأسلحة والمخدرات والنساء والأوطان .. ونخاسة العقول فحسب .. بل وتطال المجتمعات أو الفئات ذات التركيبة الثقافية والمعرفية والعلمية والطبية أيضاً ..
عذراً .. فأنا أتكلم من هذا الباب عندما يتدهور المجتمع أخلاقياً .. أو يمر بظروف صعبة ينتفي فيها القانون .. وتتلاشى سلطة العدالة .. ولا سيما في ظروف الحروب والأوبئة المرضية والأخلاقية .. والكوارث الطبية الهائلة فنجد أن هناك تخثراً وتكتلاً .. وهذا التخثر أو التكتل يسمى طبياً بالجلطة الاجتماعية .. أي تتكتل فيها العناصر البشرية مثل الخثرة الدموية وتشكل ما يسمى بالمافيات .. فنجد المافيات الاقتصادية كتلاعب التجار الكبار بلقمة المواطن وأوكسجين حياته .. واحتكار مقدراته .. ونجد المافيات السياسية التي تشبه مصاصي الدماء .. والمافيات الاجتماعية والفنية .. حيث يقتصر الفن والرسم والإخراج والتمثيل على مجموعات معروفة من الاخطبوطات الفنية .. ثم نجد المافيات الثقافية حيث تروج لأناس وكتاب وشعراء يفهمون في أي شيء عدا الثقافة وتلك المافيات السابقة تنتهي بمافيات الطب ..
على أي حال .. ما يهمني هو التحدث عن المجال الذي أعمل به وهو مجال الطب .. وقبل أن أبدأ.. أرجو أن تعلموا أنني لا أدعي إحاطتي بعلوم الطب إحاطة كاملة .. ولست من علماء الطب العباقرة .. ومع ذلك يبقى فوق كل ذي علم .. عليم .. ولكنني أؤكد لكم أنني لم أنقطع عن متابعة قراءة الطب منذ تخرجت من الجامعة .. وحتى هذه اللحظة وأؤكد لكم أنني أحترم مرضاي .. أياً كان هذا المريض .. وغالباً لا يزور المرضى الأطباء للحصول على الدواء المناسب فحسب بل ربما ليسمعوا كلمة أمل .. أو طمعاً بابتسامة الطبيب .. ولطفه وإنسانيته فهذا المريض المصاب بالسرطان يعرف حق المعرفة أنه لا يوجد على وجه الأرض طبيب قادر على مكافحة هذا الداء مهما علا شأنه ..
من الأخطاء الشائعة
إن الطب هو مهنة إنسانية .. ولكن جميع المهن المتعلقة بالإنسان هي مهن إنسانية.. أليس من واجب النجار أن يتعامل بإنسانية خلال ممارسة مهنته كي لا يهبط السقف على رؤوس أصحابه ؟! أليس على اللحام أن يتعامل بإنسانية كي لا يبيع المواطن لحوم حمير ؟!.. إذاً .. كل مهنة هي إنسانية ولكن اللاإنساني هو الذي باع ضميره وأخلاقه للشيطان مقابل المال .. إذاً كلمة إنسانية تطلق بشكل مغلوط على الطب فقط .. ولكن يجب أن نقول على الطبيب أن يكون إنسانياً …. وقد تجد محارباً جباراً عاد من معركة للتو .. فترى هذا المحارب كم هو عطوف حنون محب لجميع الناس .. مع أنه كان منذ قليل يحارب أعدائه في المعركة .. وربما صادفت ممرضة ناعمة جميلة في إحدى المشافي فحرضت عواطفك الجياشة .. ولكن عندما طلبت منها طلباً صغيراً من أجل طفلك المريض في المشفى .. لتراها صرخت بوجهك بصوت (قوي ) لا تملك أدنى حاسة الإنسانية ..
د. نصر مشعل