أسئلة كثيرة تثيرها مجموعة القصص التي جاءت بعنوان ” الموتى متفائلون أيضاً ” وهي آخر أعمال الدكتور الأديب نزيه بدور .
من هذه الأسئلة : إلى متى يبقى موضوع الانحياز الكلّي إلى الطبقة الكادحة ، موضوعاً أثيراً لدى الكتاب ؟ وكيف كيف تستطيع القصة القصيرة جداً ، كفن أدبي أن تدهش القارىء أسلوباً وفكراً ، كما هو الحال في قصص المجموعة؟! وإلى أي حد استطاع الدكتور نزيه بدور أن يتساوى مع أساطين الأدب الروسي الكلاسيكي الذين عشق أدبهم ، وهو طالب في الدراسات العليا في سان بطرسبورغ في تسليط الضوء على الفقراء والكادحين ويتبنى وجهة نظر تنصفهم لأنهم بناة المجتمع ؟!!. ولعل السؤال الأهم الذي يطرحه الدكتور بدور هو : إلى متى نبقى محكومين بالأمل والتفاؤل وإلى متى يبقى هدف الأدب أن يبث التفاؤل وحب الحياة ليشكل معادلاً موضوعياً للشقاء .. وكما يقول غوركي ” الأدب الذي لا يبث التفاؤل ليس أدباً “.
اثنتان وخمسون قصة قصيرة وأكثرها قصيرة جداً يقدمها لنا الأديب نزيه بدور ففي ( كيف له أن يخرج من تلك الحالة ) الطيار المدني لا يصدق أنه قد أعفي من عمله لسبب صحي ولا ينفك يتحدث عن رحلته من دمشق إلى القامشلي . حالة الوهم تجعله متفائلاً وبراحة نفسية .
وفي ( حين عرف من طعنه ) يتحمل المطعون غدراً في ظهره الطعنة ويتماثل للشفاء لكنه عندما عرف من طعنه مات . قصة قصيرة جداً بامتياز من حيث التكثيف اللغوي والنهاية الصادمة والفكرة الرشيقة والجمل القصيرة الموحيّة .
في ” البصر والبصيرة ” يتراجع الأعمى عن مهمته في ذبح شقيقته غسلاً للعار, فتنقذه البصيرة من عمل جرمي فيكف عن تنفيذ المهمة عندما يرى وجهها مشرقاً ويتذكر طفولته معها .
وفي ( لست وحيداً) يزور البطل قاعة الدروس الجامعية فلا يجد أحداً فيها ، حنين جارف إلى الأيام الماضية ، لا زملاء لا زميلات . يخاطبه المستخدم المسؤول عن القاعة ( لماذا أنت وحيد) لكنه كان يسمع ضحكات زملاء وزميلات الدراسة ويراهم فيجيب ( لست وحيداً).
في قصة ( الشاب الذي أعجب بزوجتي ) ثمة خمسة أسطر ، لكنها جاءت بلغة مكثفة وفكرة قوية… الرجل الذي يحدق بزوجة الراوي يرتدي نظارة سوداء . وعندما يهم بتحطيم جمجمة هذا الوقح ( ينهض ويتناول عكاز العميان ويتحسس طريقه مغادراً)!!
يتركنا القاص نزيه بدور في نهاية كل قصة ، مندهشين مصدومين من نهاية غير متوقعة ، ومنبهرين بلغة شفافة موحية .
وفي قصة ( الحاضر الغائب ) يصبح المحتفلون بالانتصار مجرد ضجيج لا معنى له ، لأن الصامت المدهش هو الشهيد… وحده الشهيد الحاضر الغائب وكل الضجيج لا يساوي شيئاً أمام نقطة دم واحدة من أجل الوطن.
ولعلنا نعود إلى المقدمة التي كتبها الناقد أحمد علي هلال لهذه المجموعة فنقرأ ( يعاضد القاص د.نزيه بدور نصوصه السردية بشريطها اللغوي المتفاوت طولاً وقصراً ، فضاءات بيكاسو التشكيلية ليمنح قصصه وأفكاره البعد التخيلي، حيث لوحات بيكاسو ترافق القصص . تنتصر هذه القصص للإنسان المكافح ، الفقير ، وتمجد الذكاء البشري وإنسانية الإنسان وتدين التسلط والعبودية والاستغلال بكل صوره كما تدين الغباء والسذاجة . وتغرس التفاؤل الذي نحن محكومون به ، على قاعدة العمل والكفاح والتميز.
” الموتى متفائلون أيضا” هي العمل الأدبي الثالث للدكتور نزيه بدور بعد روايته ( إعلان مقتل الدكتور علي ) ومجموعته القصصية ( على شفا حب ) وفي هذا العمل الجديد ثمة روح جديدة يمنحها بدور للقصة القصيرة فكراً و أسلوبا فيمرر أفكاراً كبيرة في أسطر قليلة مما يثير الدهشة والتشويق لدى القارىء.
عيسى إسماعيل