تحية الصباح .. «المعلم الفنان ..وداعاً »

يرحل المعلم ويبقى تلاميذه يتابعون مسيرته ورسالته ،ويرحل الفنان وتبقى لوحاته تترجم لمسات قلبه وهمسات عقله بالخطوط والألوان ،ويرحل الإنسان وتبقى أعماله تدل عليه .
وأنا أعتز بأني كنت واحداً من تلاميذ الأستاذ الفنان الراحل :فيصل عجمي إذ توافدنا في منتصف ستينات القرن الماضي إلى دار المعلمين في حمص ،جئنا نحمل الشهادة الإعدادية لندرس أربع سنوات ونتخرج فيها معلمين ،أتينا من جميع أنحاء ريفنا ومن المدينة لننهل المعرفة ونتدرب على التعليم ،وكانت دار المعلمين في ذلك الزمان صرحاً من صروح المعرفة والتربية ،لما كانت تحتضن من مدرسين أكفاء :أدباء وفنانين تشكيليين وموسيقيين ورياضيين بارزين ،وكانوا بحق الرجال الذين فتحوا أمامنا بوابة المعرفة وأخذوا بأيدينا إلى الطريق الواضح المأمون وقالوا لنا :انطلقوا فإن الحياة لا تؤخذ إلاّ غلابا كما قال الشاعر أحمد شوقي يوماً .
وكان من بين هؤلاء المدرسين الفنانين المدرس الفنان :فيصل عجمي طيب الله ثراه فقد أحاطنا بأبوته وكأننا أبناؤه ،وأخذ يفتح أمامنا بوابات الفن التشكيلي –وهو الدارس في ايطاليا مهد هذا الفن في عصر النهضة فعرفنا من خلاله روعة لوحات ليوناردو دافنشي ،وأذكر أنه أمضى أكثر من حصة يحدثنا عن لوحته الشهيرة –الجوكندا –ويحاول أن يستشرف معنا سر ابتسامة –الموناليزا –الرائعة ، كما عرفنا لوحات ميشيل أنجلو المرسومة على سقف كنيسة سيستين –وتماثيله التي تكاد تنطق كتمثال موسى .
ولم تفتر عزيمة مدرسنا الأستاذ فيصل عجمي يوماً في تشجيعنا وتنمية المواهب الفنية لمن امتلكها فأخذ بصقلها مع رفاقه المدرسين الفنانين رشيد شما ،غسان السباعي ،عبد المنان شما ،فبرع من برع وأبدع من أبدع ومنهم يومذاك الطالب الفنان جورج ماهر الذي زينت إحدى لوحاته الجدارية بهو دار المعلمين الرئيس .
ومضت الأيام وانسلت السنوات من حياتنا كما تنسل الألوان من ريشة فنان مبدع لتعانق لوحة رسمها بخياله الخصب قبل أن يرسمها على الجدار أو الخشب أو الورق .
وأصبح أستاذنا فيصل عجمي نقيباً للفنانين التشكيليين في سورية ،وشعرت بالاعتزاز والفخار لأن أستاذي أصبح في هذا المكان الفني والإداري ،ولكنني شعرت بالزهو أكثر حين اصطحبني الصديق الشاعر ممدوح السكاف – أعاد الله إليه ذاكرته المفقودة –إلى صالة صبحي شعيب وقال لي سنرى الآن سوية حديقة النقابة ،وعندما هبطت الدرج الحجري رأيت أستاذي الفنان فيصل عجمي ،نقيب الفنانين يرصف الحديقة بيديه ويرتب أحواضها ،استغربت ولم استغرب وقلت لصديقي الشاعر ممدوح السكاف :إن أستاذي الفنان فيصل عجمي كبير بكل المعايير ،ولذلك حول المكان من مكب لقمامة الأبنية المجاورة إلى حديقة نضرة بورودها ، فنية بأحواضها ،عابقة بأحاديث روادها ،ولذلك لن أدعوها إلا حديقة الفنان :فيصل عجمي !!

د. غسان لافي طعمة

المزيد...
آخر الأخبار