كنت أمشي بتثاقل , وعيناي مشدودتان لواجهات المحال في إحدى الشوارع الرئيسية في المدينة , عندما اعترضت طريقي امرأة في العقد الرابع من العمر ومعها فتيان ..
” أهلاً يا أستاذ ..!! ” قالت
حسبتها تحيي شخصاً آخر , وعندما تلفتّ حولي ولم أجد أحداً أدركت أنني أنا المقصود “
” ألا تتذكرني يا أستاذ ؟!! “
قلت بعدما نظرت إليها :
” كأنني رأيتك من قبل يا ابنتي ..!
قالت : ” أنا فلانة ابنة فلان ..!!
شعرت برعشة تسري في جسدي إجلالا للاسم الذي ذكرته ..!!
” وهذان ابناي …!!
قلت :
” ماشاء الله .. رحم الله والدك أبا غسان ووالدتك ورحم الله شقيقك غسان .. كلهم استشهدوا معاً في ذلك التفجير الإرهابي الفظيع ..!!
كانت الدموع تتجمع في عينيها , وفي عينّي أيضاً فقد أثارت ذكرى الشهداء الثلاثة مشاعر الحزن والألم لدي ولديها .
ودعتني وانطلقت لشأنها , بعدما حملتها سلامي لأعمامها .
عدت لأتذكر القصة التي رواها لي أبو غسان الشهيد .
” كنت في الخامسة عشرة من عمري , عندما جئت إلى حمص , في أواخر الأربعينات من القرن الماضي عملت في نقل الأحجار من ريف حمص الغربي , القريب من المدينة , مع صاحب شاحنة كنا نأتي بالحجارة المقطعة الجاهزة للبناء .. عملت عشر سنوات قبل أن أتمكن من شراء قطعة أرض في طرف المدينة الشرقي بمبلغ مائة وخمسين ليرة سورية ..!! وبنيت عليها غرفة كنا نسميها غرفة ” طب ” بدون أعمدة وبالحجارة بدون اسمنت , مما يعني أنها مؤقتة .
بعد سنوات تركت العمل بالحجارة وفتحت دكاناً ثم محلّ للغاز وهكذا , وكما ترى صار عندنا بناء من ثلاثة طوابق .. الحمد لك يارب …!! “
عبارة أبي غسان , في أذني , صورته أمامي واختلطت هذه الصورة بصورة الركام الهائل الذي خلفه انفجار سيارة وضعها الإرهابيون أمام منزله .. استشهد العجوز الثمانيني مع زوجته الثمانينية وابنه الذي جاء في إجازة ليوم واحد العقيد غسان ..!! رحمهم الله تعالى .
كنت أرى أبا غسان في كل مجالس العزاء التي تقام في المدينة في كل الاحياء فأصدقاؤه , كما قالي لي , في كل أحياء حمص .. كرم الشامي , المحطة , الخالدية .. القصور …الخ
كان , رحمه الله وجهاً اجتماعياً معروفاً , لم ينس أيام الفقر والتعتير فكان , عندما منّ الله عليه بالثروة , يمد يده لمساعدة الفقراء والمحتاجين ويتبرع بسخاء للمشاريع الخيرية الاجتماعية .
رحم الله الشهيد أبو غسان ورحم الله زوجته وابنيه الشهيدين .. الذين كانوا يحتسون معه قهوة الصباح عندما انهار البناء بفعل التفجير الإرهابي الإجرامي واستشهد بعض جيرانه الأبرياء .. رحمهم الله جميعاً .
عيسى اسماعيل