ذات يوم مندَّى برطوبة نتجتْ عن بعض الأمطار الخفيفة، جاء معلّم أصيل، وكان عليّ أن أغادر قرية ” البْويضة”، وقد عدتُ وإياه من تلك القرية إلى حمص، وتعارفْنا، وكان اسمه عبد القادر حميد، وكان طويلا، نحيف الجسم، ذا صوت عميق، وهو من أهلنا الفلسطينيين في مخيّم العائدين بحمص.
تتابعت الأيام والسنوات، وبعد خدمة سنة في مدينة تدمر العام الدراسي 1959-1960، عيُّنت في مدرسة القادسيّة في حمص، والتي ماتزال حتى الآن قائمة في حيّ كرم الشامي، وهي تبعد قرابة عشرة دقائق عن بيتنا في حيّ ” النّزهة”، بحسب خطواتي في تلك الأيام، وهناك التقيت مرّة أخرى بزميلي وصديقي عبد القادر، وهو رجل عروبيّ، تقدّمي، متحمّس لقضايا أمته، وكان ذلك عام 1961، وهو، كعربي فلسطيني يهمّه أمر فلسطين بالدرجة الأولى، وكان، كغيره، يرى في الوحدة بين مصر وسوريّة خطوة واعدة من أجل تحرير أرض فلسطين.
غبتُ عن حمص من سنة 1963-1965، ولتلك السنوات شرح آخر، ضمّنته مخطوطي، “مدارات2-سيرة أحداث”، وعُيّنتُ مرة أخرى في مدرسة القادسية التي غادرتها قبل سنتين، وكان صديقنا عبد القادر مازال في تلك المدرسة، فتمتّنتْ عرى الصداقة، لاسيّما وأن ما يجمعنا عقائديّا أكثر ممّا يفرّقنا،
ذات يوم دعاني عبد القادر لزيارته في بيته، ولم أكن قد دخلتُ ذلك المخيّم، فقد عرفتُه في بداية نشوئه، وكان ذهابي إليه مع آخرين من باب حبّ الاطّلاع، وكان خيماً متلاصقة، تسمع فيها لهجة أهل فلسطين، فيؤلمك جرح جوّاني لما أصاب أهلنا فيها،
أذكر أنّه بعد أن وصلت الدفعة ألأولى من القادمين من فلسطين أنّ صداقة قامت بيني وبين تلميذ فلسطيني، ، فقد استأجر أهله بيتا في حيّ المحطّة آنذاك، وكان من أرقى أحياء حمص، بحسب فهم ” الرقيّ” المُتداوَل، وقد شرح لي أنّهم يقيمون مؤقّتاً بيننا، وإنْ هي إلاّ أيام وسوف يعودون إلى بلادهم، ذلك ما منّاهم به ” حكّام العرب” آنذاك، وها قد تراكمت السنوات، وطالت الأزمنة، وما زال أهلنا الفلسطينيين في الداخل والخارج يقاومون باللّحم الحيّ عربدة الغزاة الصهاينة، مضافا إليها،تصهين عدد من ” حكّام العرب”، ولا أقول ” الحكام العرب”، لأنّ العروبة منهم براء،
ذهبتُ وعبد القادر إلى المخيّم، كانت الشوارع ترابيّة، ليس فيها شارع معبّد، بيوت متلاصقة يسند بعضها بعضا، ربّما لأنّ هذا التّساند يعبّر عن رغبة عميقة، تجد في حضورها ردّا عمليّا على البعثرة العربيّة الرسميّة، هذه الشوارع تشبه إلى حدّ بعيد شوارع أحيائنا التي بدأت تقوم على أطراف مدينة حمص، في المناطق الزراعيّة المحيطة بها، وملامح الوجوه واحدة، ولولا الفارق في رؤية بعض الأزياء الفلسطينيّة لظننتَ نفسك أنّك لم تغادر حيّك الذي تسكن فيه،
حين انطلقت المقاومة الفلسطينيّة عام 1965، وبرز اسم حركة ” فتح”، كان عبد القادر من أوائل المنتسبين لهذه الحركة، ومن أشدّ المتحمّسين لها، انطلاقاً ممّا كانت تعد به،
ثمّة فجوة في الذاكرة، لا أذكر منها إلاّ أنّ عبد القادر استطاع أن يسافر إلى الكويت، وكان السفر إليها مغرياً، وأهلنا الفلسطينيّون، بحكم الشتات الذي فُرض عليهم، وبحكم قسوة ما واجهوه، اختار عدد كبيرة منهم أن يضرب في آفاق الأرض، بحثا عن مستوى كريم من العيش، حتى ليُقال إنّ عدد المهجرين منها، يساوي عدد مَن بقي فيها، وحقّقوا نجاحات باهرة حيث ذهبوا، وهذا أحد الدلائل على حيويّة هذا الشعب، وحيويّة هذه الأمّة، ويكفي أن أذكر أنّ أعلى نسبة للشهادات العليا، عربيّا، هي للفلسطينيّين،
وبلغني ذات يوم نبأ وفاته حيث كان،
الآن بين يدّي دفتر أنيق أهدانيه مازال على طاولتي، أستخدمه حتى هذا الوقت،
سلاماً للعروبة المتحرّرة، سلاما لكل مظهَر من مظاهر الوفاء…
عبد الكريم النّاعم