تحية الصباح .. صباح الخير … جدّي !!

رأيته يمشي بهدوء أمام بيتنا ، في القرية ، يرتدي لباسه الشتوي وأهم عناصره “الفروة ” السوداء المصنوعة من جلد الخراف . وبيده اليمنى سبّحة ، حباتها حمراء كبيرة . اعترضت طريقه وأنا ألقي تحية الصباح عليه ، كما يجب أن تكون ” الله يصبحك بالخير .. جدي أبا محمد!!”.

“الله يصبحك بألف خير ..!! يرد التحية بأحسن منها

رمقني بنظرة فاحصة وقال :

” ألست أبا إبراهيم …؟!!

قلت : ” نعم … أنا هو …!!”

استدرك وقال : ” لكن اسم ابنك ليس ” إبراهيم ” …. تيمناً بأبيك نحن نقول ” أبا إبراهيم …!!” . أجبته أن اسم ابني الأكبر ” علي ” ولكن أغلب أهل القرية يدعونني ” أبا إبراهيم ” وأنا أشعر بالرضى لهذا , ولكن القسم الآخر ، من أبناء القرية لا يزالون يدعونني ” أبا لبنى ” اسم ابنتي الكبرى .. وأنا لا أرى ضيراً في ذلك .

توسلت إليه أن يشرفني بزيارة الآن ونحتسي القهوة في المنزل لكنه اعتذر وأشار إليّ أن أجلس أمام المنزل على المصطبة .. فالشمس دافئة هذا الصباح ، كما قال .

قلت له إنني مسرور ، لرؤيته ، فمنذ زمنٍ لم أره ، وهو أكبر المعمرين في القرية . وجه مدور ، حليق الذقن . شاربان أبيضان معقوفان ، عينان لا تزالان تبرقان كعيني الصقر . من يعتني بك يا جدي أبا محمد ؟ من يتدبر طعامك وشرابك ؟. يقولون إن زوجات أبنائه يتناوبن على خدمته في منزله الذي لا يبيت إلا فيه ، وحيداً   بعدما رحلت ” الملكة ” أم محمد ، كما كان يدعوها . أمزح معه فأقول : ” أنت ملك يا جدي … لكن الملك يحتاج إلى ملكة …!!”. يحرك عصاه مهدداً وضاحكاً ويقول ” الإنسان يتعرف في حياته على ملكة واحدة يعيش معها .. اسكت!!”.

عبّر لي عن سروره لأنني ما أزال مرتبطاً بالقرية والأرض ، وعبّر عن سخطه ممن لا يأتون القرية إلا مرّة أو مرتين في السنة …!!.

سألني عن موسم الزيتون .. كيف هو عندنا ، وأجبته ” لا بأس !!”. وراح يحدثني عن الدنيا وأحوالها . وكرر ما ذكره لي في المرّات السابقة من أنه لولا الحكومة لما كانت هذه المواسم الوفيرة من زيتون وعنب ولوز … الحكومة التي أرسلت لنا ” البلدوزرات الضخمة ” التي قلبت الأرض رأساً على عقب وحولت الأرض الصخرية شديدة الانحدار إلى مدرجات تربتها حمراء خصبة …

وأعطتنا – يقصد الحكومة – الغراس بأسعار شبه مجانية .

انظر إلى هذه الأرض الممتدة أمامنا .. يقول لي , كلها خضراء … زيتون وعنب ولوز وتين … الحمد لله أنني عشت ورأيت هذه المواسم , التي ماكنا نحلم بها ..!! كنا نشتري عدة كيلو غرامات من زيت الزيتون مونة السنة كلها وعدة كيلو غرامات من السمن البلدي .. اليوم الخير وفير جداً .. الحمد لله .. نضع المونة ونبيع الفائض .

وأثنيت على حديثه الذي لا يخلو , أحياناً , من الدعابة , فقد قالي لي إنه سيخبر جدي وأترابه الذين سبقوه إلى عالم الآخرة , بهذه التطورات التي حصلت بعد غيابهم والتي لم يمهلهم القدر للتمتع بها وقال لي سيخبرهم أيضاً عن هذا الجهاز وأخرجه من جيبه ليريني إياه – الذي يتكلم بواسطته مع من يريد لو في آخر الدنيا أبو محمد يحمل جهازاً خليوياً فاخراً ..!!

ووجدته يسألني عن هذا الوباء اللعين الذي أسمه ” كورونا ” .

فحدثته عنه فقال : إنه مثل وباء ( الهواء الأصفر ) – الكوليرا الذي عصف بالبلاد قبل ثمانين سنه ..

قبل أن يهم بالمغادرة إلى بيت أحد أبنائه , قلت له كمن تذكر شيئاً مهماً :

” لم تحدثني عن الشهادة التي حصلت عليها كأول عضو في الجمعية التعاونية الفلاحية جدي أبا محمد ..!!”

” أي والله .. شهادة أعطاني إياها وزير كان اسمه محمد غباش .. وزير الزراعة عام 1986 عندما زار القرية .

هذه المرة لم أسأله عن عمره المديد , بالصحة والعافية فهو من مواليد 1919. لا يدخن , لا يسهر , يستيقظ باكراً مولع بالقهوة العربية يتناول السمن العربي في غذائه … متعه الله بالصحة والعافية …. كل من في القرية  يناديه “جدي …”

عيسى إسماعيل

المزيد...
آخر الأخبار