تلقي الحداثة مفاتيحها بين يدي الدكتور وليد العرفي الذي يعرف تماماً كيف يوظف تقنياتها وتفاصيلها لخدمة القصيدة الموزونة هذا ما نراه في مجموعته الشعرية الجديدة التي عنونها بـ:”رأيت خلفي جثتي “,الصادرة حديثا عن اتحاد الكتاب العرب في سورية ,173 صفحة من القطع المتوسط .
أول ما يغري المتلقي لمتابعة القراءة هو حداثة الصور والمشهدية المسكوبة في قصيدة موزونة , ما زالت تطربنا موسيقاها رغم أنف جماعة (الجرْس الموسيقي للأحرف ) فقد تربت ذائقتنا على الأوزان خاصة عندما تتدفق في الروح التي تحوم خلف جثة لم يلحظ صاحبها أن الروح فارقته ففوجئ بجثته خلفه ليلقي بنا في بئر الشعرية بعد أن قطع حباله .
العناية الفائقة بالعنونة
يعتني الشاعر العرفي بعناوين قصائده عناية العاشق بمشاعر معشوقته فيترك لنا في العناوين ما يشي بمفاتيح الفضاء الدلالي للقصائد :”سباق الحواس ” ,”سدرة المعنى”, “تفاح الضلال” “مازال يكبرني البكاء” فاجأني غيابك بالحضور” “زوادة الذكرى ” وغيرها الكثير من العناوين التي تأبى أن تكون مجرد عتبة أولى للنص لتصبح المغزى المراد من القصيدة وتصبح هي خاتمة القصيدة كما في النص الذي عنون الشاعر مجموعته به وهو :”رأيت خلفي جثتي “حيث يختم الشاعر قصيدته بـ:”لا بد من بعض البكاء /عسى يرى الأحباب /أني لم أزل حياً//فكم أحتاج من موت لضم حبيبتي الخجلى من الشريان /حين يرى ابتسامتها/يقابلها بنبض الجرح في درب أضعناه معاً ؟/ولقاؤنا ما احتاج إلا خطوة /قد سِرْتِها /لكنني /لما التفتُّ رأيت خلفي جثتي .
العنونة هنا تخاتل المتلقي وتحرض خياله لقراءة المشهد الشعري الذي حرص الدكتور العرفي على سكب تفاصيله في حواكير الروح لتولد أسئلة الشعر ,فيبدأ بومضات شعرية عنونها بـ :”تساؤلات” عددها سبع ,ولا يخفى على أحد دلالات الرقم سبعة في التراث الإنساني ,حرص فيها الشاعر على بناء المفارقة في المعنى والمبنى يقول: من منكم شاهد شمساً تشرق في يوم غابر ؟!/أو شاهد بحراً يجري في قارب ؟!/ من منكم أبصر رجلاً /يصعد ..يصعد ..يصعد /نحو الأسفل؟!
وفي ومضة أخرى يقول: متبعثر في ذاته أي الأصابع تجمعه؟.وفي ثالثة: “تلاحقه الذكريات فيهرب ماذا سيفعل لو أمسكته ؟.
وما يلحظه القارئ أن الشاعر استهل ومضاته إما بجملة خبرية تلاها استفهام أو بدأ بأداة استفهام وهذا يردنا إلى ما بدأنا به أن الشعر ما هو إلا سؤال يولد سؤالاً آخر.
قصائد الشاعر مشحونة بالإيحاء الموارب …يضفي عليها استلهام التراث الثقافي الموظف بعناية في التفاصيل جمالاً خاصاً بالشاعر العرفي خاصة عندما يشتق كلمات تخصه وحده يوظفها دون إقحام .
وهناك صلة واضحة بين الشعر وبين الواقع الذي يحياه الشاعر الذي ترك بيته عنوة في هذه الحرب فلم يعد ثمة فرق بين المعشوقة وبين هسهسة المفاتيح عند عتبة البيت (الوطن )الذي يبقى الشاعر على حبه مهما عانى,إن هذه الشعرية المضمخة بصدق العاطفة التي تستلهم الأسطورة لتصنع أسطورتها الخاصة بها تغري القارئ ليعيد قراءة القصائد أكثر من مرة فالشاعر العرفي ناقد متمكن, وقد أعمل ملكاته النقدية في غير تجربة شعرية حية وهو من الشعراء القلائل المثابرين في إنتاج النقد والشعر بخصوصية وحساسية فنية .
وأرى أنه من الإجحاف أن يقارب المتلقي هذه المجموعة الشعرية بهذه العجالة ولكن هي طبيعة المادة الصحفية واختلافها بأننا مضطرون لوجبة سريعة على أن نعود إليها في وقت لاحق.
من الجدير بالذكر أن الشاعر وليد العرفي من مواليد حمص 1966يحمل شهادة الدكتوراه في اللغة العربية وآدابها ويعمل مدرساً في جامعة البعث وله الكثير من الإصدارات النقدية وإصدار شعري آخر باسم:”ويورق الحرف ياسميناً ” . مبارك لك إنتاجك الجديد ومبارك لك هذا الاستمرار الجميل.
ميمونة العلي