من الذّاكرة 89

دخل صديقي الذي لم يتركني حتى الآن، والذي أشكّل وإياه، وبعض من هو من جيلنا، علاماتٍ شاهدة على أزمنة انصرمت، وصارت بعيدة إلاّ في الذّاكرة ولكنّها لا تخلو من بعض الاعتبار، ككلّ الأزمنة التي تتلاحق.

بعد جلوسه بقليل نظر في وجهي بعمق وقال: ” يا رجل كأنّنا في زمن من أزمنة الكوابيس، أو من أزمنة الحكايات، والمؤلم فيه أنّه حقيقة وليس كابوساً، الذين يحلّلون ويحرّمون، ويتقيّدون بشيء من مكارم الأخلاق، صاروا كالكبريت الأحمر، على حدّ قول كتبنا القديمة، الكلّ يشكو من غياب الأخلاق، ومن غياب مَن يحميها، والغالبيّة متذمّرة مِن الذين شفطوا أموال البلد، وأموال البلد هي أموال الناس، والكلّ يُدرك معنى خزينة الدولة جيوب مواطنيها، ورغم المآسي فما ثمّة مَن يرتدع ذاتيّاً، أو أخلاقيّاً”.

قال له:” يبدو أنّك محتقن لدرجة الانفجار”.

تابع:” دعني ممّا أنا فيه، واسمح لهذا البخار المضغوط أن يتنفّس قليلا،.. تصوّر أنّ وجود مسؤول مهمّ نزيه، سمّوه باسمه، ما أن يمرّ من شهره عشرون يوماً، حتى يبدأ بالاستدانة ليتمكّن من العيش في الحدود الدنيا، مثل هذا، وما أظنّه، بل أمثاله كُثُر ، يواجهون مثلنا الأمرّين، بينما السماسرة، والذين هم مستعدّون لبيع الجمل بما حمل، يعيشون حياة أخرى لا علاقة لها بحياة معظم الشرائح الاجتماعيّة التي أصبحت عاجزة إلاّ عن الصبر، وتجرّع مرارات مواجهة حاجيات (العيش) اليوميّة بما يتيسّر، أقول ( العيش) ولا أقول ( الحياة)!!، لقد بلغ الفساد ذروة لم نعرفها من قبل، حتى صار مَن كان فيه ذرّة من وازع يخلع ذلك الثوب خارجاً على الناس شاهراً فساده،.. تصوّر أنّ صاحب التاكسي الأجرة، الذي يتمكّن من تعبئة حصّته من البنزين، يفرّغ هذا البنزين ويبيعه بأضعاف ما اشتراه، وبربح أكبر من ربح عمله في توصيل الناس، وهو لا يخون الأمانة فقط، بل يعطّل أعمال الناس، فلا يجدون مَن يوصلهم إلى الأماكن التي يقصدونها، ويُساهم في مضاعفة الأجرة، شيء يجنّن يارجل”

قال له: ” تعال أنا وأنت لنستذكر بعض ما عشناه في هذه المدينة، وعايشناه، في منتصف خمسينيات القرن الماضي، هل تذكر(…) الذي كان موظّفاً في دائرة نفوس حمص، أيام كان إخراج أيّ قيد نفوس يقتضي الذّهاب إلى تلك الدائرة تحديداً”؟

قال بانفعال: ” وكيف لا أذكره”؟!!

تابع: ” أنا الآن لا أروي لك، وإنّما استعيد ما في الذاكرة، لأبسطه بين يدي من يقرأ ما نكتب، لأُطلعه على فوارق جوهريّة بين زمانين، هذا (…) كان حين يشتدّ ازدحام الناس، في مواسم معيّنة، وكلّ يريد أن يأخذ ورقته بيده، كان البعض يضع له في قلب البطاقة الشخصيّة ما قيمته خمسة وعشرين قرشا، أو خمسين قرشا، فيُقدّم دوره، وكان المذكور يذهب لأحد المقاهي في فترة ما بعد العصر، فيمرّ بعدد من المقاهي التي كانت تملأ وسط المدينة، من حدود الساعة القديمة حتى قهوة الفرح المجاورة لمبنى الاتصالات حاليا، وكلّما مرّ بمجموعة يشيرون إليه قائلين:” يا عيب الشوم، يرتشي ولا يخجل أن يمشي في الشارع”، اليوم، كما سمعتُ ممّن هم على احتكاك بالجهات المقصودة يَشْكون من أنّهم يقدّمون الرشوة علناً، يداً بيد، بل ويساومك المرتشي فيقول :” ما بتوفّي” حتى لكأنّه قد دفع شيئا من دماء قلبه فيما سيفعله، وهو موظف ليستجيب لطلبات الناس، وإلاّ لماذا تعطيه الدولة هذا الراتب،؟!! وبعد أن يأخذ ما يأخذ، حراماً، مُنكَرا، ومسبّبا جوع الآخرين، ينظر إليك بتعال و(مَنْفَخَة) لأنّه تفضّل عليك بقبول رشوتك التي قطعتَها من قوت العيال، في هذا الغلاء الفاحش!!

قال:” يُخيّل لي أنّ في الأزمنة ما يمكن أن نسمّيه أزمنة ( إقبال)، وثمّة أزمنة أخرى هي أزمنة قحط، وبظنّي أنّنا نواجه زمن قحط القحط…

عبد الكريم النّاعم  

aaalnaem@gmail.com

المزيد...
آخر الأخبار