راح يلهب سياط الزمن ، حاملاً مظهره الحزين وفي عينيه عالم من الومضات بانتظار أن يهيئ لهما الزمان أن يشعان من جديد .. يسعل .. يتمادى في السعال .. لعل ذلك يأتي تعبيراً عن جهد خارق يبذله لابتلاع غصة ، كادت أن تخرج بعيداً من حدود نفسه وهو يتلهى بطي ملابسه داخل حقيبة السفر .. غادر قريته بتردد من يحمل على أكتافه هموم العالم كله ، يتحمل وزر حاجته للعمل وجلب النقود حتى ولو كان ذلك من أقاصي الأرض خشية أن يقتله الجوع هو وأولاده وزوجته وأمه .. طويل هو الطريق يشعره بذلك قلبه الحزين ، عيناه داخل السيارة تقولان كلاماً كثيراً يحمل حسراته والزفرات الحارة مع غيره من المسافرين يفسد ما تبقى من أوكسجين..فاضت الهمهمات وتشابكت الأحاديث المختلطة والتي تصب في قالب ظروف الحياة الصعبة وما يجري فيها من أحداث .. تعابير وجهه تعيد ذكراه إلى تلك اللحظات التي أنبىء فيها بذلك العمل فشد الرحال إليه.. في ذلك الوقت خرج منتشياً بفوزه ليكون بين المختارين لذلك العمل .. تذكر وجه أمه الذي تهلل فجأة واختفت التجاعيد من قسماتها بضحكتها العريضة وثغرها الحبيب يقول ” ألف مبروك ياولدي ” سرى الدفء في أوصاله.. قبل الوجه العجوز الذي افتر عن قول جميل :” قلبي كان يحدثني أن آخر الصبر خير ..” آه.. أي خير يا أم والسنوات التي سيقضيها بعيداً عن الأهل والعائلة تحدّق فيه من خلال الغربة القاسية ستستنفذ كل طاقته المعنوية وجهده.
الأيام ستمشي بطيئة قاسية .. أفكار كثيرة تطفو على سطح عقله تضغط على المخ فيحسه يكاد ينفجر.
أنقذه من تلك الأفكار المتشائمة كونه ذاهباً ليرتقي بالحياة المعيشية لأسرته فامتلأت نفسه فجأة بفرح طفولي تفاؤل عفوي ليقول في نفسه : إنقاذ أسرتي من مستقبل غير آمن هو هدفي الأسمى والأكبر في هذه الحياة الصعبة فلأشد الرحال إلى حاجتي دون أدنى شعور بالندم ..
عفاف حلاس