مطرْ… مطرْ…مطرْ … بالنّعمة انهمرْ…بالعشب والثّمرْ…
أنشودةٌعذبةُ الكلمات بسيطة النّظم خطّها الشاعر سليمان العيسى ، حفظناها وردّدناها مذْ كنّا صغاراً على مقاعد الدّراسة الأولى ، وتعلّمنا منها معاني رتيبة عن نعمة المطر ، وكيف تتحوّل ظروف هطول المطر الغزير والمعاناة التي نشعر بها حينها إلى حالة شاعريّة صادقة مفعمة بالصور الجميلة والّتي تبعث الأمل والتفاؤل في نفوسنا…
ولعلّ الأيام الممطرة التي نعيشها في هذه الأيام تحرّك فينا فيضاً هائلاً من المشاعر والذّكريات الّتي لا تُنسى من حياتنا وتتراءى أمامنا صور مختلفة مرّت علينا خلال سنوات طويلة مضت من عمرنا ،ومن أجمل الصّور هي عندما تترافق إشراقة الشّمس مع هطول المطر والانعكاسات الرّائعة الّتي تلمح في الجوّ من هذا التداخل السّحريّ بين خيوط المطر وخيوط أشعّة الشّمس الذهبيّة ، وأبهى هذه الصّور الألوان الجميلة الّتي يشكّلها قوس قزح في الأفق البعيد بنظمِ إبداعيّ خلّاق…
ومن الصّور السّاحرة عند توقّف المطر وإشراقة الشّمس على سطوح الحجارة الصّماء المبلّلة بالماء والّتي تعكس أشعّة الشّمس وكأنّها مرايا صقيلة منظومة بعناية ، وترسل إشعاعات الضوء ببهاء إلى النّاظرين يعجز الّلسان عن وصفها، ولكنّها ترسخ في الذّاكرة ويتوق من شاهدها إلى رؤيتها مرّات ومرّات بشغف وشوق وكأنّها للمرّة الأولى لأنها تفتح آفاقاً جديدة كلّ مرّة ، وربّما تفتح القلب والمشاعرعلى بواعث جديدة للأمل والحبّ والسّعادة…
وأكثر ما يدهش عند انهمار هذه النّعمة لفترات طويلة ، تفتّق الينابيع والعيون الّتي يفيض ماؤها من الأرض ، وكأنّ رسالةً بُعثت من السّماء تمّ الرّد عليها من الأرض وتكاملت مع المرسَلات ، وتناغمت تربة البسيطة بذات الّلغة مع قطرات المطر وأهدت أهلها الماء العذب ليروي الكائنات من بشرٍ وشجر ولتعمر وتزدهر نفوس البشر قبل الحجر ، وتفيض محبّة وتسامحاً وتزداد نشاطاً وحماساً للعمل الدؤوب للتّنعّم بعد بذل الجهد والتّعب بما جادت به السّماء على الأرض الطّيبة من رخاءٍ ونماء وثمر ومواسم وفيرة تسرّ النّفوس عند القطاف وجني محاصيلها…
ولا عجب أن تغنّت الحضارات البشريّة القديمة بالمطر ، واتّسعت مخيّلة الإنسان عبر التاريخ كافّة أشكال هطول المطر وارّخت آثاره على البشريّة ، حتّى صوّرته كلّ حضارة بشكل مختلف عن الحضارة الأخرى حسب ما رأت من مظاهر للمطر في فصل الشّتاء لا سيّما ما يرافقه من ظواهر طبيعيّة مثل البرق والرّعد والبرد القارس والعواصف المطريّة القويّة والرّياح العاتية الّتي تدمّر صروحاً بناها البشر بلمح البصر …
وطالما ارتبطت مواسم الأمطار التي تتنعم بها السّماء على الأرض عند القدماء “بإله الخصب ” الّذي بمجده تتجدّد دورة الخصب الزراعيّة وتلبس الأرض ثوبها السّندسّي الأخضر، وهو المظهر السّاحر الّذي يرغبه الإنسان حيث يبشّره بمواسم خيّرة تمكّنه من تحقيق ما يصبو إليه في حياته ، ومن الأمنيات التقليديّة الّتي يتمنّاها الإنسان منذ القدم وحتى الآن زواج أحد أبنائه من فتاة ذات حسب ونسب ليفرح بذريّته ويَسعَد الأهل و الجيران بهذا الزّواج الّذي هو من الطّقوس التّاريخيّة الأساسيّة للخصب في الحضارات القديمة، ومن الأمنيات أيضاً بناء منزل أو توسيعه ليناسب الأسرة وينعم أفرادها بالسّعادة والرّخاء في بيت العائلة…
والمطر حاجة أساسيّة لكلّ الكائنات والمخلوقات،كلٌّ له نصيبٌ من خيراته ،أدام الله علينا أمطار الخير في كلّ المواسم وأظلّنا برحمته لأنّ انهمار المطر فيه رحمة للعباد ومسّرة للنّفوس الّتي تتوق لحياة ملؤها السّعادة والحبّ والطمأنينة و السّلام .
منذر سعده