يقول العارفون أنّ الدّمع يساعد على تخفيف صدمة الألم، وأنّه يقتل السموم التي يولّدها الحزن أو التوجّع، فماذا يفعل الذي يتحجّر دمعه وهو أحوج ما يكون إليه، عساه يرفع هذا الشيء الضاغط على الصدر والروح؟!!
من أين أبدأ لا أعرف، من البدايات التي تعود إلى منتصف سبعينيات القرن الماضي، وربّما كانت أقدم من ذلك، واستمرّت حتى الرحيل،؟
هل ثمّة سهرة من سهرات ذلك الزمن الجميل فعلا لم تكن فيها؟!
هل ثمّة بقعة في هذا الوطن، إلاّ ما ندر لم نكن فيها معاً؟!!
من أعالي جبال الساحل، حتى انبساط الأرض التي اتّسعت لسفراتنا وسهراتنا، وذكرياتنا، حتى بيتك الجميل الصغير في مساحته في “وادي العيون”،.. الكبير بما كان يحتويه من الدفء، والكرم، والألفة، إلى بيتك في حمص، والذي كان ملتقىً فسيحاً للأصدقاء المشتركين، والمناقشات الجادّة، العميقة الثقافة والمعرفة، وتُشاركنا بعض ذلك لوحات الفنان التشكيلي الراحل مصطفى الحلاّج المعلّقة في صدر بيتك.
بعض البيوت تدخلها، وقد يكون المتوفّر فيها من أسباب الراحة، وما يُمدّ على الخوان لا يخفى على عين ولكنّ بعض البيوت، والتي تجود بالموجود، فتشعر أنّك في جنّة صغيرة تستطيع أن تسرح فيها برحابة اليخضور، وصفاء الماء، لسبب خفيّ قد لا تلمحه إلاّ الأعين القادرة على اختراق السجف، وهو الصدق، والانفتاح، والحبّ ، وعدم التكلّف، والوضوح الذي يُشبه تفتّح أزاهير الصباح،
سافرتَ إلى الجزائر ذات زمن، وظلّت رسائلنا متواترة، نتبادل فيها الآراء حتى كأنْ لا وجود لتلك المسافة الشاسعة .
كنتَ حاضرا في منتديات حمص كلّها أنت الذي لا قريب لك فيها إلاّ قرابة الأنفس التي عرفتَها وعرفتْك، وكان إقبالك العفويّ على الحياة وفي التعامل مع مَن حولك، وصدْقك، وأريحيّتك، هو جواز قرابات الأنفس التي تنتعش ببوْح خفيٍّ هو من طبيعة الأرواح ،
أظنّ أنّني بحاجة لمساحات إضافيّة في البياض والمشاعر لكي أستطيع الكتابة، بينما الحالة النفسيّة أضيق من سمّ الخياط،…إضافة إلى ما ذكرتُ، والذي لم أذكره أكثر، .. ستّ عشرة سنة وستة أشهر أمضيناها في برنامج ” هنا حمص”، والذي صار اسمه ” آفاق” فيما بعد، .. ستّ عشرة سنة في برنامج أُعدّه وتغطّي مساحة منه بمقابلاتك، فلم يُدعَ شاعر، أو باحث، أو موسيقيّ، أو مفكّر، أو صاحب فعاليّة إلاّ وأجريت معه لقاء، وكان اللقاء يُذاع يوميّا، فأضفتَ أفقاً لآفاقك.
أبعدت الظروف القاسية في محنتنا الأخيرة، .. أبعدت ابنيك، أحدهما في البرازيل، والآخر في مكان ما من إيطاليا، فهل سيجدان مَن سيذرفان بمحضره دمعة غربة حارقة على فراق لا لقاء بعده؟!!
نعرف جميعا أنّ الموت حقّ، وهو مصير كل حيّ، بيد أنّ ذلك لا ينفي أنّنا نُصاب بشيء من الذّهول، والعجز، والاحساس بمرارة الخواء،
هل في توقيت رحيلك بعض العزاء، إذْ رحلتَ في الوقت الذي يحتفي به اتحاد الكتاب العرب بعيد الشعر العالمي، ؟!!
الذين وضعوا في برنامجهم من الشعراء المدعوّين لإحياء مناسبة عيد الشعر،… بعضهم وضع في برنامجه أن يزورك، فيا لخيبة الأقدار.
لقد فقدت مدينة حمص عدداً لافتاً من أدبائها في العام الماضي حتى لكأنّ ثمّة حسابا بينها وبين الزمن، وأخاف، في هذه اللحظة لو أردتُ تعداد أسمائهم، أن أنسى فأُلام، ولكنّها أسماء ليست بخافية، وكيف تُخفى وقد كانت صًوى يُهتدى بها،
بعض الكلام حين يكون صادقاً يُغني عن الكثير، فهل أكتفي بهذا القدر؟ حتى لو اكتفيت به فما أدري ماذا أصنع بتلك المشاعر التي انبثقت لحظة سماعي بخير رحيلك، رغم أنّني كنت أتوقّع ذلك، فأيّ معادلة هذه أن يُفاجئك ما كنتَ تنتظر،؟!!
وداعاً محمد الفهد أبا وضّاح…
عبد الكريم النّاعم