حين كنت ألتقي شابة أو شاباً.. يعيش في المدينة الجامعية لسنوات طوال بحجج يتقنها , حتى بعد تخرجه من الجامعة , وهو القادم من قرية بعيدة في ريفنا الواسع .. كنت أستغرب , وأتساءل كيف يكسر على أنفه البصل , ويواجه التحديات , وصعوبات الحياة.. ولا يعود إلى دياره حيث الأهل , والأقارب .. يرفض العودة متمسكاً بحبال الريح .. وحين تستنفد فرص البقاء في المدينة الجامعية يأوي إلى مكان آخر يناسب حالته .. فالمهم أن يبقى في دمشق . دمشق المدينة التي تفتح ذراعيها لكل قادم على مدى التاريخ .. دمشق أول المدن .. لا تستغرب الوجوه , ولا الألقاب , لا الأسماء , ولا تميز بين غني , وفقير ,.. هكذا عرفتها في الثمانينيات أيام دراستي الجامعية هناك .. فحين تدخل المدينة تعانقك الرياح الجافة , وحين تمشي في شوارعها تجدها تتسع لك فلا أحد يحدق بك , وأنت واحد من كل . لذلك اعتقدت أن هؤلاء الشباب الذين خرجوا من قراهم إلى دمشق ليدرسوا يوم لم يكن إلا جامعة دمشق .. أعجبهم الواقع الجميل , فدخلوا الجنة !! في القرى البعيدة آنذاك .. كانت الحياة تنأى بالحياة , يعيش ناسها بزهد لم نعهده نحن أبناء المدينة .. ومن يخرج منها , ويرى العالم لا يمكنه أن يعود إلا كزائر . بعد سنين طوال .. وحين زرت بعض هذه القرى .. كانت المفاجأة بالنسبة لي … عادت إلى ذاكرتي أسماء من مروا لصديقات , وأصدقاء خرجوا , ولم يعودوا إلى قراهم , رغم ما كنت أعتبره معاناة .. وعرفت السبب .. هم في رغد العيش يعيشون , في دمشق , قياسا بأترابهم , الذين لم يكملوا دراستهم الجامعية واكتفى البعض – المجتهد منهم بصف الخاص – يومها – .. هناك في القرى البعيدة النائية .. تحسب أنك في منفى إلا عن طيور وسناجب , وعدة بقرات , وقطعان غنم , وماعز , والحياة رغم الموت !! لكن من تمسك بحبال الريح لن تخذله رياح الغربة .. فأرض الله واسعة .. بعض من عرفت منهم استطاع أن يحصل على وظيفة , وبجهود قوية تفوق , ونجح وامتلك شقة بالتقسيط , وبعضهم استلم منصباً مرموقاً فيما بعد .. فلكل مجتهد نصيب .. البعض ما يزال , وحتى اليوم متعلقاً بخيوط الأمل .. قد تكون خيوط الوهم . هي الحياة معركة ودائما هناك منتصر , وخاسر .. سبب الحديث .. أنني زرت مؤخراً الصرح الجميل , جامعة البعث الواسعة الشاملة في حمص , وقد فرحت لأبناء حمص , وما حولها لوجود هذه الجامعة لكل أبناء المنطقة الوسطى .. وقد كانت حلماً بالنسبة لجيلنا … سورية لك المجد.
سعاد سليمان