تحية الصباح… صباحات برائحة التراث

انتفض  قلبي بسرعة وأنا  أستعيد  ذكرى وجه  جدتي الأبيض المدور  كرغيف خبز وعينيها الخضراوين ، نبرة صوتها العالية كانت توقظني وهي تقف على باب  دارنا في القرية  حيث  كنا نأتي  كل صيف بعد أن تغلق المدارس  أبوابها.. تندفع  داخلا ً وهي تحمل  قدر الحليب الطازج الذي حلبته صباحا ً مع طلوع الفجر  إضافة   إلى البيض البلدي ومنتوجات  أرضها الوافرة ..

 كيف  لا أذكر  أماسيها وصباحاتها الدافئة والتي كانت تمطر المكان  بودها  حاملة  إلينا الزبيب والتين المجفف والعنب من أرضها المعطاء، ثم  تذهب  ويختفي  طيفها في الزواريب الضيقة ..

  ذكراها  لاتفارقني كلما ضاقت بنا السبل واحترقنا  بنار الغلاء وقلة الإنتاج ..

 لن أنسى فرحة القلب وهي تتسلل مع دعوة  جدتي في الصباح الباكر لأذهب معها إلى بستان التين  نقطف  ما لذ وطاب من ثمارها ..

 الطريق  إلى الأرض غير معبدة لاتسلكها  سيارة، لكن  خطواتنا مدربتان جيدا ً للوصول إلى تلك الأرض الوعرة ..

 بساطتها وعفويتها ترسمان في مخيلتي اليوم شعبا ً يعاني الحاجة بسبب الحرب والحصار الجائر ، طريقه باتت معبدة بالأشواك إذ لم يعد  في الإمكان الحصول على البيض ولا اللحمة ولا الزبدة  حتى في القرى التي كانت عامرة بالمنتجات .. اختلف الزمان كثيرا ً ونام على أشياء مهمة في  عمرنا المتسرب من بين  أصابعنا كالماء .. لم يعد للروح مكان نقطف فيه الأحلام، حل زمن الأيام العجاف الساكنة التي خنقت مشاعرنا وأحلامنا في بؤرة القهر، تجعلني مرات ومرات أشتاق إلى زقاق  القرية أسرح في الزواريب الضيقة حيث الشمس الحرة إلى زهر البراري استنشق الهواء بعمق يدخل  رئتاي بعيدا ً عن جو المدينة الخانق، طالما اشتقت لاحتضان الطبيعة  في منزلنا القديم  حيث ربابة  أبو جميل تشق الأجواء يطلق الزفرات كونه  لاعمل له  ولكنه كان راضيا ً بعيشه حيث يستجدي طعامه  مما تيسر  من أعشاب الأرض ينفث ألحانا ً تعبر  القرية لتستقر على شبابيك البيوت  كأنها بلبل مغرد بأجمل أغنيات التراث .. لكنني سرعان  ما أعود بين الفينة والأخرى إلى الواقع بجو الغرفة الخانق والمعبق برائحة المتطلبات لتختفي الكلمات في حلقي وأنا متجهة إلى المدينة ترافقني  حكاياتها وتشغل تفكيري ، إلى أن أعيد الكرة .. صورة القرية كانت  دائما ً تتحرك في داخلي وتتنفس ككائن حي تشرق مع حكاية  جدتي  التي كانت من أمتع الشخصيات وألصقهن برائحة القرية والتي طلع عليها   ذات صباح ، بجسد طاله المرض وراح  يذوي ليوارى الثرى ولتعلق الأحلام  على ماض مجيد، فكانت  كالشمس التي تتوارى في عتمة المغيب.

عفاف حلاس

  

المزيد...
آخر الأخبار