كل الأشياء الجميلة .. المختزنة في داخلي تستيقظ دفعة واحدة لتذكرني بأمس دافىء لتلاميذ صغار كانوا يلعبون في ساحة المدرسة، يتدلون من النوافذ أو يقفزون فوق السور، يهربون إلى بساتين المزة القريبة من مدرستي “النيرين” كنت واحدة منهم، نمر كل صباح إلى دكان ” أم عيد ” نجلس على كراسي الخيزران ونبدأ بأكل البليلة الطازجة المعطرة برائحة الكمون والحامض ، وعند الانصراف نعرج إلى بستان ” أم علي” تلك العجوز الهرمة التي تعيش وحيدة في بستانها ذي الأشجار الباسقة نشتري الجوز والبلح، ونلعب على ضفاف النهر المار بالبستان ، نغوص باللعب حتى آخر نفس لضوء الشمس ..
في اليوم التالي أتوجس خيفة ، وأنا أرى وجه المديرة تشتم ، تتراجع بقامتها القصيرة المربوعة إلى الخلف غاضبة من شقاوتنا وهروبنا، تحاصرني كفأر هارب من المصيدة فتغوص عيناي في بحيرة الدمع ، أراها بغمضة عين تغرغر بكلمات غير مفهومة من شدة الغضب تختطف أنفاسي خوفا ً من عقاب محتمل وهي تحمل عصا غليظة تهدد بها وتنفذ وعيدها بضربنا على سطح أيدينا يوم كان الضرب غير ممنوع لتتغير قوانين المدرسة وتبدو قابلة للتطويع بمنع الضرب نهائيا ً مهما بلغ ذنب الطالب مما عرضهم للتسيب الكامل..
كانت تلك الهفوات في الماضي تضحكني وتسليني وأرى فيها شقاوة طفولة ومراهقة لكنها اليوم تحرك في قلبي غصة كلما تذكرت سخريتي الخفية من مدربة التربية العسكرية التي اختفت من مناهجنا اليوم رغم ضرورتها وضبطها للطلاب ، فشخصية المدرّسة القوية كانت تأسرني حتى جعلتني أتمنى وأطمح أن أصبح يوماً ما مدرّسة ….ذكريات جعلتني أتيقن أن أخطاء الطالب وهفواته ترتكب في كل زمان ومكان بمجرد ملامسة مقاعد الدراسة التي لها مفعول السحر في ظهور الشغب وليست وقفاً على طلاب اليوم الذي أصبح الميدان واسعاً لكيل الاتهامات لهم والبعض منها ظالم ، لكننا نحن الجيل الأسبق مازلنا نعزف على أوتار الماضي ونتغنى به وكأنه قاعدة غير شاذة ونمجده دون محاولات للقيام بمداواة داء المناهج والذي يتمثل بكثرة الحشو وطريقة التدريس الببغاوية النظرية والبعد عن مواكبة أحداث اليوم بشفافية وموضوعية والتي تبث في روح الطالب الملل، مع أن الدواء موجود ووصفه سهل فبقليل من الإرادة والتصميم والعمل الجاد يختصر المنهاج لجعله سلسا ً مقبولا ً ..
عفاف حلاس