يمرّ الليل بنا سائراً بألف قدم وقدم تعاقب أيام ولياليَ , فتركن النفس إلى هدوة سكينة في وقار الصمت , وتروح النسمات العِذاب على أطيافها تهدهد لوائج الوجدان , وتراود خفايا التأملات تأملات وثمة بعض أصوات تجود بها مطارحات الفضاء الرحيب , هي حراك أنفاس لكائنات , وأشياء يتناهى حراكها أصواتا على أمواج الأثير , ولألاء النجوم بوح ألف نداء ونداء وفي سكون الليل أكثر من عبق يهبّ ريّان النفحات من فيض كروم وباسقات شجر , وحنوِّ مساكب ورد من هنا و هناك هي ترانيم إيقاعات في أسماع الدّجى إشراقات فِطن في ملامح الجمال , ورونق التناغم البهي إيحاءات في مرامي ثنائية العقل والوجدان . هو الصوت صدى , ونداء , وفي قراءة الذّات وعي حضور إرادة رأي فرادة موقف , وفي مطالع الفن شدو أغنيات ليقظة كلمات تحمل حُميَّا الوجد سُلافات حتى الثمالة في مكامن الذوق الرفيع وعمق الدلالة في مكامن الفهم الحذق لوقع المعنى في سردية الرؤى , وبراعة المحتوى في صوغ رسالة المغزى , وهو الصوت في حنجرة مؤدّ يطرب الآفاق غنائية تَمثُّل لكل حرف وسبائك من عبارات تقصّ متسع الفيض الوجودي مابين دمعة وابتسامة تؤازر ذلك إيماءات وحركات برزانة الفنان الذي يجعل الصوت أغاريد , والمعاني قناديل تحاكي لألاء النجوم في إشراق السعادة صوب كل مآل .
وثمة موسيقا هي منعطفات الترانيم في حنايا الروح , وألق الفن ابتكار صوغ , ودنيا إبداع ضمن مدارات الفن الأصيل عبر آفاق الزمن الجميل . إنه الصوت , وفي منطوق اللغة زمزمات وزقزقات عصافير وفي معطاه ثقافة, وفي متونه مطولات قصائد و مقطعات ركاز قواف تتهادى أبياتها ترافد كلمات ليكون عند فمها العذب قافية هي ملتقى السبل وفي مكامن القراءة بالصوت أسماء تخاطب بها الكائنات دعوة لامتثال أمر, أو زجراً لامتناع في غيره . وكذلك في مقاربة التعريف حواراً عن بعد هو تعريف عبر ” السمة الصوتية ” فتكون المعرفة اسما لصاحب صوت يحلّق بصوته إلينا فهو الصوت الحاضر في ثنائية الحروف صوامتَ : الحروف جميعها , ماعدا حروف العلّة , والتي هي صوائت . إنه الصوت الناجز قيمة مضافة في امتلاء لحن شجيّ متماوج تعبير معنى , وسعة تذوق وفهم استيعاب حتى ليتبدّى صداح بلابل متجاوزاً الصوت أثراً سمعياً فحسب لتأخذه معطيات الوسائط الحديثة في جانب من برامجها تغريداً على واحد منها . إنه الصوت المعبّر عن نباهة ترويجا لابتياع حاجة في حسن تصريفها دفعا لكسادها فكان الصوت نباعة فطنة ( قُل للمليحة في الخمار الأسود ) وفي وعي التأليف اصطفاء أصوات مئة فكان كتاب الأغاني بأجزائه المتعددة ، وفي طرائق وخصائص الكتابة، كما عند ” عبد الحميد الكاتب ” يأتي الصوت عناية بالإيقاع الموسيقي للكلام الذي لايعتمد السجع، وإنما الترادف الصوتي، جزالة للألفاظ، وفصاحة لها. إنه الصوت ( في جانب آخر) الجاف المقعد عن أداء ندائه حين يغدو أمنية مآلها : لا حياة لمن تنادي ، إذ (( فالصوت إن لم يلقى أذناً ضاع في صمت الأفق )) و تراه أبكماً مكلوماً نشازاً في متاعب الأسماع تنفيس عجزٍ حيال أمرٍ عند من أعيته الحجة، و جافاه الدليل ، فأخذ يرفع عقيرته ، وقد أقعده النهوض تسعفه في ذلك مفردات هي قوارص الكلمات على قارعات أهواءٍ و عنجهية مزاج صداً لخواء في نفس ، و إعياءٍ في توكيد ذات ، و ما بين السماع صياحاً ، و التأمل بصيرةً حسبنا أن لا نراها إلا فقاعات … فما حال ذاك الصوت الضجيج إلا: بزجاجة رقصت بما في قعرها رقص الكلوص براكب مستعجل إنه نداء في الفراغ , وهلاك دون طائل ، لكنه أذية تعكر كل صفاءٍ أكان في رأد الضحى أو هاجرة يومٍ قائظ أو سكينة ليل فالملكات العقلية أبعد مدى بقليل كلام و كثير حجة في منطق ، و سعة ذوقٍ جميل رهيف . إن الصوت حاضر في عفوية الحياة ، و مكين مرتسماتها شؤون عملٍ و حسن أداء هو إرادة الجمال ، وسعادة العمل ، وبناء الذات في معمارية العقل الخير الجميل الذي تطمئن إليه جماليات الرؤى و التصورات و معطيات الحضور في متسع كل مجال ليغدو شدو لحنٍ أخّاذٍ في مسامع الجوزاء إرادة حياة . إنه في دنيا الحب و المحبة يصير بذكر من نحب أكثر حلاوةً في لفظ أسمه غالباً معتقا بأنفاس العبير إنساناً إلى إنسان . و لا شك أنه في إطلاق الصوت صراخ سخطٍ هو عطالةٌ لرهافةٍ و رقة و تلويثٍ فيزيائي لصفاء البينة ، و تجاوزاً لعفوية هدوتها و كائناتها و أشيائها. يا له جمالاً . ذاك الصوت الطافح اتقاد فطنةٍ متوجةٍ بحكمة منطق وسداد رأي ، و تنغيم أداءٍ في تجسيد معانٍ فتتلقفه الأسماع إنصاتاً سردية وعيٍ مثقفٍ ، لا عويل حروفٍ في متاهات انفعالات .
نزار بدور