قالوا:” مَن مدح وذمّ، فقد كذب مرّتين”، يعنون أن يمدح الانسان إنساناً، أو موقِفاً، ثم يذمّه فيما بعد، فإنّه إمّا أن يكون صادقاً في الأولى أو كاذبا في الثانية، وهم يعرّضون بذلك بصاحب مثل هذه المواقف، ويحضّون على الصدق ومكارم الأخلاق، ويبدو أنّ هذه الظاهرة ستظلّ موجودة ما ظلّ مَن يرتضون لأنفسهم مثل هذا التناقض، ولا شكّ أنّ فيه ضررا بالنفس وبالآخرين، وفي العصور المتأخّرة للحضارة العربيّة الإسلامية وُجِد مَن يعتبرون قدرتهم على مدح الشيء وذمّه مزيّة يمتازون بها، وبعض مَن فعل شيئا من هذا الجاحظ، حين ذمّ ” العروض” ومدحه، مستعرِضا قدراته، فقال في مدحها:” العروض ميزان، ومِعراض بها يُعرف الصحيح من السقيم، والعليل من السليم، وعليها مَدار الشعر، وبها يسلم من الأوَد والكسر”، وقال في ذمّه:” هو علم مولَّد- (يعني به أنّ العرب لم يكونوا يعرفون ما استنتجه الفراهيدي من موازينه، لا بمعنى المولَّد الذي يعني غير الأصيل)- وأدبٌ مُستبرَد، ومذهب مرفوض، وكلام مجهول، ، من غير فائدة ولا محصول”، وهو لا ينجو من التّهمة وإن كان في هدفه إظهار القدرة على المدح والذمّ، بيد أنّه وقع في مسألة ليس فيها ضرر للعباد.
أمّا خالد بن صفوان، الذي يُذكَر في كُتب التراث، وهو من فصحاء العرب المشهورين، المولود سنة 135هجريّة، وُلد في البصرة، وكان من أثريائها، ولكنّه كان بخيلا، وقد نادم هشام بن عبد الملك ، وعمر بن عبد العزيز في الدولة الأمويّة، كما نادم السفّاح في الدولة العباسيّة، وكان السفاح قد تزوَج أم سلَمة المخزوميّة القرشيّة، واشترطتْ عليه ألاّ يتزوّج عليها، وألاّ يتسرّى بجارية، أي أن لا يأتي الإماء اللواتي هنّ ملك اليمين كما كان ذلك جاريا في تلك الأيام، وذات مسامرة مع السفاح قال له خالد بن صفوان:” إني أرى مَن هو في مثل منزلتك أقلّ استمتاعا بالنساء، وقد ملكَتْ على نفسك امرأةٌ واحدة فاقتصرتَ عليها، فإنْ مرضَتْ مرضْتَ، وإنْ غضبتْ حُرمْت، فلوْ رأيتَ الطويلة البيضاء، والسمراء اللّفّاء، والصفراء الجزّاء، والغَنِجَة الكحلاء، ولو رأيتَ الغضة من ذوات الألسن العذبة، والقدود المُهَفْهَفة، ممّا يهب السعادة والمُتْعة”، ولمّا رأى خالد أنّ الخليفة يصغي إليه بالغ في الوصف، فاستعاده الخليفة الحديث فأعاده وأجاد، وذهب الخليفة إلى زوجته متفكّرا، فلم تزل به حتى حدّثها بما سمع، فأرسلتْ مجموعة من عبيدها بالعصي، وأوصتهم أن يُشبعوا ابن صفوان ضربا غير مميت، وهذا ما كان، فجلس في بيته حتى يُشفى من أثر الضرب، فاستبطأه الخليفة فأرسل إليه، ولا حظ ستارة منصوبة وحركة من ورائها، فاستعاده الخليفة ما سمع منه، فقال خالد :” نعم يا أمير المؤمنين، قلتُ إنّ العرب اشتقّوا كلمة الضرّة من الضُرّ، وأنّ ما من أحد تزوّج من النساء أكثر من واحدة إلاّ كان في جهد وعناء”، قال الخليفة ويحك لم يكن هذا هو الحديث”!! فتابع خالد:” بلى وأخبرك أنّ الثلاث من النساء كأثافي القِدْر يُغلى عليهنّ، وأخبرتُك أنّ الأربع من النساء شرّ مجموع لمَن كنّ عنده يُهْرمْنَه، ويُنغّصنَ عيشه، ويُشيّبنَه قبل حينه”، …فاستبدّ الغضب بالسفّاح، فإذا صوتُ أم سلَمة من وراء الستار وهي تضحك وتقول: صدقْتَ وبَرَرتَ يا عماه، بهذا حدّثتَ أمير المؤمنين، ولكنّه بدّل وغيّر” ففهِم السفّاح الموقف، فقال وهو يضحك” أخزاك الله”،
تُرى ما حيلتنا في أبناء زماننا، من حمَلة القلم، ممَن يمدحون ويذمّون في آن؟!!
عبد الكريم النّاعم