في البدَايَةِ نباركُ للنَّاجحينَ في الثَّانويةِ العامَّةِ والشَّهادَةِ الإعداديَّةِ نجاحَهم متمنين لهم المزيدَ منَ النجاحِ والتَّقدُّمِ وتحقيقِ الأحلامِ والآمالِ ، كما لا ننسى أنْ نتمنى لمن لم يحالفهم الحظُّ في هذا العامِ الحظَّ الأوفر في المرَّةِ القادِمَةِ .
حول طاولةٍ ضمَّت العديدَ منَ المُدَرِّسينَ والأساتذَةِ والجامعيِّين طرحَ سؤالٌ نفسهُ : هلْ جيلُ هذه الأيام أكْثَرُ ذكاءً من جيلِ ثمانيناتِ القرنِ العشرين؟
والغريبُ أنَّ هذا السُّؤالَ قد طُرِحَ أمامَ نُخْبةٍ تختَصُّ بالعمليَّةِ التربويَّةِ والتَّعليميَّةِ ، وهم خبيرون بالمناهجِ التَّدريسيَّةِ في هذه الأيَّامِ ومناهجِ ثمانيناتِ القرنِ العشْرين ، وهم على اطِّلاعٍ جيِّدٍ بالقفزاتِ الشَّاسِعَةِ بينَ درجاتِ هذه الأيامِ ودرجاتِ تلكَ الأيامِ . ففي تلكَ الأيام كانَ المُجِدُّ منَ الطَّلبةِ لا يتجاوزُ في مجموعِ علاماتِهِ المئتينِ ، وهو منَ النابغين الذينَ يدرسونَ الطِّبَّ ، أمَّا الآنَ فإنَّ المئتينِ مجموعٌ متواضِعٌ يدلُّ على الغباءِ في نَظَرِ البعْضِ. ففي أيَّامِنا كان منْ يتحصَّلُ على مجموعٍ قدْرُهُ مئةٌ وأربعون علامةً يدخلُ أحدَ فروعِ الهندسةِ ، أمَّا الآن فإنَّ هذا المجموعَ لا يدخِلُهُ أحدَ المعاهدِ المتوسطةِ .
وعندَ مناقَشَةِ موضوعِ ارتفاع الدَّرجاتِ لم يتطرقْ أحدٌ إلى ذكاءٍ زائدٍ عند هذا الجيلِ ، بل أوعزوا هذا المردودَ الجيدَ إلى الدروسِ الخصوصيَّةِ ، وإلى الدوراتِ ، وإلى المناهجِ التَّعليميَّةِ الحديثَةِ ، والمحاليلِ الكثيرةِ المنتشرةِ بينَ أيدي الطَّلبةِ .والغريبُ أنَّني أحملُ إجازةً في اللغةِ العربيَّةِ منذُ ثلاثينَ عاماً ويقيني لو أنَّني تقدَّمتُ لنيل شهادةِ التعليمِ الأساسي لما حصلْتُ على الدَّرجةِ التَّامةِ باللغةِ العربيةِ ، وأقولُ إنَّ واضِعَ الكتابِ لو امتُحنَ في كتابهِ لما حصلَ على الدَّرجةِ التَّامَّةِ ،فكيفَ يحصلُ الطالِبُ على الدرجةِ التَّامَّةِ ؟ ألا يقعُ الطالبُ في هفوةٍ أو ثغرةٍ أو خطأ نحوي أو إملائي ؟ أم أنَّ مردَّ ذلك عائدٌ للتَّساهلِ في سلَّمِ التَّصْحيحِ ؟ ومعَ أنَّ القائمينَ على عمليةِ تحديثِ وتطويرِ المناهجِ يقولونَ إنَّهم يعتمدونَ على العلميَّةِ والخضوعِ للمواصفاتِ القياسيَّةِ ،و يبتعدون عنِ الاعتماد على التَّلقينِ والتَّلقيمِ في العملية التعليميَّةِ إلاَّ أنَّ ذلك لمْ يتوافر بشكلٍ عمليٍّ ، فالطُّلَّابُ الذين يحصلون على أعلى الدَّرجات إنَّما يعتمدونَ على الحِفظِ لا على الفهمِ .
وأنا شخصِيَّاً قد مررتُ بتجاربَ خاصَّةٍ تؤكِّدُ ما ذهبْتُ إليه . فمثَلاً، لاحظْتُ أنَّ ابنَ الجيران ، وهو الآنَ يدرسُ الطِّبَّ ، عندما كان يستشيرني في بعضِ الأمور في اللغةِ العربيةِ أدهشني أنَّه يعرفُ كلَّ شيْءٍ حفظَاً لا فهْمَاً ، فقد اتَّخذَ دفتراً يتجاوزُ المئتيْ ورقةٍ قد أعربَ بداخلهِ كلَّ مفرداتِ وجملِ النصوصِ في الكتابِ ، فهو يعرفُ إعرابَ شربَ مثلاً لأنَّ هذه المفردةَ موجودةٌ في الكتابِ ولا يعرفُ إعرابَ ضربَ وهي مثل السَّابقةِ تماماً لأنها غير موجودة في الكتابِ . كما أنَّه رصَدَ في دفترهِ جداولاً للأحرفِ الجارِّةِ وأخرى للأحرف النّاَصبَةِ ، وأخرى للأحرف الجازمةِ ، وجداولا للأفعالِ النَّاقصةِ ، وأخرى للأحرفِ المشبهةِ بالفعلِ ، وبالمخْتَصَرِ المفيدِ فهو يحفظُ كلَّ ما يتعلَّقُ بمكوناتِ الكتابِ ، ولا يعرفُ مثيلاتها خارجَ الكتابِ .
ومنْ جديدٍ أريدُ أنْ أتحدَّثَ عنِ المناهجِ الحديثَةِ التي يتغَنُّونَ بها ،فإنَّهُ تبيَّنَ لي أنَّ الطَّالبَ يمكنُهُ الحصولَ على علامةٍ ممتازَةٍ إن قامَ بعدَّةِ خطواتٍ مُعَيَّنَةٍ منطقِيَّةٍ متسلْسِلَةٍ ، وهنا أوردُ لكم تجرُبَةً مرَرْتُ بها معَ ولدي الذي عاد إلى المدرسةِ بعدَ انقطاعٍ .
لقد قرَّرَ ولدي أن يتقدَّمَ لشهادةِ التعليمِ الأساسي بعد انقطاعٍ ، وكان لزاماً عليَّ أن أساعدَهُ في اللغةِ الفرنسيَّةِ التي هجرتُها منذُ ثلاثينَ عاماً ، والتي لا يعلَمُ ولدي شيئاً منها . ذهَبْتُ إلى المكتباتِ ، وأحضرتُ المحاليلَ وأسئلةَ الدَّوراتِ السَّابقةِ ، والأسئلةَ المتوقَّعَةَ لهذا العام ،وعن طريقِ إتباع خطواتٍ معيَّنَةٍ ممنهجةٍ ومدروسةٍ استنبطتُها من أسئلةِ الدَّوراتِ السّاَبِقَةِ وطرائقِ حلِّها ، وقد تفاجأتُ أن يحصلَ ولدي على علاماتٍ ممتازةٍ في اللغةِ الفرنسيَّةِ . وأخيراً فإنَّني شخصِيَّاً أتطلَّعُ إلى الجمالِ لا إلى الكمالِ ، بمعنى أنْ نجتهدَ إلى نوعِ الكيفِ لا الكَمِّ ، وإنَّما يكونُ ذلكَ عن طريقِ رفْعِ سويَّةِ الأسئلةِ ،وتشديدِ الرقابةِ ،والاعتمادِ في مناهجنا على الفهمِ لا الحفظِ ، وعند ذلك لا ضررَ من أن يدرُسَ الطِّبَّ من كان مجموعه مئتي درجةٍ طالما أنَّهُ منَ الأوائلِ .
جمال السلومي