الدون كيشوتية وأطيافها

كثيراً ما نسمع عن شخص ما بأن شخصيته دون كيشوتية أو أن موقف فلان من الناس كان موقفاً دون كيشوتياً
فما هي الدون كيشوتية ؟
تنسب إلى رواية (دون كيشوت )للكاتب الاسباني ميغل دي سرفانتس سافدرا كان لظهورها أعمق الأثر في ظهور هذا التعبير ومدلولاته .وربما كان لكاتب هذه الرواية التأثير في نشوء هذا التعبير وجعله عالمياً .فقد جعل من بطل الرواية شخصية تتمتع بمثالية بعيدة عن العقل لأنه كان يريد إصلاح العالم بطريقة ساذجة بعيدة عن الواقع ومتناقضة أيضاً مع العلم فأثار سخرية القارئ وشغفه في آن واحد .
إن دون كيشوت بالرغم من شطحات الخيال التي تعتريه والتي تصل أحياناً إلى حد الجنون فهو لا يختلف في جوهره عن الإنسان العادي الذي لم ينل من العلم والتجربة حظاً ونجد الكثيرين في مجتمعنا من يحملون هذه الصفة فبعضهم يطرح مسألة إصلاح الخطأ والخلل في المجتمع بأنه يمكن إصلاحه بالمواعظ أو بمغامرات مجنونة بعيدة عن العقل .
اشتهر دون كيشوت بمحاربة طواحين الهواء متخيلاً بأنه يهزم جيشاً والجنون الذي يبدر عن ذلك الفارس بطل الرواية إنما يعبر عن موقف الإنسان المثالي الغر عندما يواجه واقعاً لا يرتضيه ولا يقبله ولا يملك حياله سوى إطلاق العنان لخياله كتعويض عن التغيير الذي يجب أن يحدثه فيه .إن محاولات دون كيشوت المتكررة واليائسة لإصلاح العالم كانت محاولات كاريكاتورية ومثالية لدرجة تثير السخرية والضحك .
تدور أحداث الرواية حول نبيل اسباني ناهز الخمسين من العمر ويعيش في إحدى قرى لامنشا .لقد أمضى هذا النبيل معظم وقته في قراءة الروايات الخيالية التي كانت واسعة الانتشار في عصره وتدور أحداثها حول الفروسية والبطولة والأعمال الخارقة التي يقوم بها فارس يدعى (الفارس الجوّال )وعلى هذا الفارس أن يقوم دائماً بالترحال من مكان إلى مكان سعياً وراء مغامرات جديدة أو يعمل على تحقيق رغبة محبوبته التي دائماً ما تطالب بأعمال لا يستطيع إنسان القيام بها .
ولقد شغف دون كيشوت بهذه الروايات شغفاً وصل إلى الحد الذي جعلها تسيطر عليه سيطرة كاملة فأصبح يخلط بين الواقع والخيال بل أصبح يرى أحداث هذه الروايات كحقيقة واقعة لاشك في صحتها ويحاول محاكاتها أو حتى التفوق عليها ففقد القدرة على رؤية الواقع كما هو وهكذا دفعت هذه الروايات بدون كيشوت إلى حافة الهوس فخرج يمتطي جواده (روزينانت )ويصحبه خادمه (سانشو )ممتطياً حماره (دايل )يخرج حاملاً رمحه ومرتدياً درعه متخيلاً نفسه فارساً هماماً وكان يفشل دوماً في رفع الظلم عن الضعفاء كما كان يقول لأن الطريقة التي يستخدمها في الدفاع عنهم ينقصها العقل والتعقل والفهم السليم العلمي للواقع .
هذه الطريقة التي سميت بالدون كيشوتية نجد لها انعكاساً في ثنايا المجتمع العربي المتخلف بشكل أو بآخر فعلى المستوى الفردي نجد التناقض الواضح بين الواعظ وسلوكه وبين الروائية التي تنادي بتحرر المرأة ووجوب إخلاص الرجل لها نراها تتزوج أربع أو خمس مرات ونشاهد أيضاً داعياً للحرية يمارس التسلط على أفراد أسرته فيبرمج عقولهم بشكل خيالي بعيداً عن الواقع أو يجبرهم على سلوك مستقبل هم غير مؤهلين له فيكبت مواهبهم ويرى أن الجمل والخيمة والعودة بشكل رجعي هو طريق الإصلاح .
وإذا حاولنا تطبيق الدون كيشوتية على بعض السياسات العربية وتطورها نجد أنها لا تخلو من دونكشوتية مبطنة متغلغلة فيها ومن خيال بعيد عن الواقع وتقوم على المزاجية وعدم الموضوعية والحسد والحقد أحياناً وعلى التبعية والخضوع أحياناً أخرى وليس فيها إعادة هيكلة للعقل أو المراجعة وعلى عدم تبني المواقف بشكل علمي أو موضوعي وعلى عدم استخدام مراكز الأبحاث والاختراع ويمكن أن نقول إن الموضوعية والعلمانية هي ضد الدون كيشوتية وضد الخيال المريض الذي لا يؤدي إلا إلى مزيد من النكوص والانكسارات .
عبد الغني ملوك