قلب المعري … ثاقب النظر أكثر من المبصرين

لا يكتفي أبو العلاء المعري زهدا في الدنيا واحتقارا لها بأن يصف نفسه رهين المحبسين بل يرى أنه رهين سجون ثلاثة فيقول: أراني في الثلاثة من سجوني /فلا تسأل النبأ النبيث /لفقدي ناظري ولزوم بيتي/ وكون النفس في الجسد الخبيث /ومع ذلك فقد كان ذا قلب ثاقب النظرة أكثر من المبصرين ,وأكثر تطوافا في آفاق المعرفة من الرحالة المشهورين وأوسع حرية في التفكير والتعبير ، وحين نقرأ آثاره نعجب أي عجب لضلوعه في علوم اللغة والتاريخ والمذاهب الفكرية ونعجب أي إعجاب بمهارة تلميحاته إلى معالم الفكر والعلوم القديمة وإيماءاته البارعة المستشرقة إلى بعض العلوم الحديثة .
نتخيل أحمد بن عبد الله بن سليمان منذ سنة أربعمئة للهجرة وهو في السابعة والثلاثين من عمره حتى وفاته عاكفاً في بيته متأملاً ومفكراً ومدركاً سعة علمه واستبحار معرفته يحمل في رأسه عالماً من المعرفة والعلم أوسع من العالم المحسوس على شكل تاج أجمل وأبهى من تيجان الملوك.
إن تيجان الملوك صائرة إلى الزوال والبطلان، وتاجه المعرفيّ المرصع الذي يزين مفرقه أغنى جمالاً وأبقى زماناً وأخلد. وإذا اختال الملوك بتيجانهم الذهبية وافتخروا بسلطانهم الزمني، فرهين السجون الثلاثة زاهد في كل أبّهة عازف عن كل زيف. لقد قال في سقط الزند، :» وإني وان كنت الأخير زمانه لآت بما لم تستطعه الأوائل.» وقد أتى حقاً من تأليفه وأشعاره وسيرة حياته بما لم تستطعه الأوائل. وقد عرف الدنيا وأحس في نفسه وعند غيره بمصائبها فشعر في النهاية بتفاهة كل شيء في الحياة حتى المعرفة.
يبدو لنا أبو العلاء في ظلام عينيه شمساً مضيئة كبقية الشموس الإنسانية الكبرى التي أضاءت عالمنا الفكري ,كان المعري في كل ما كتب حريصاً كل الحرص على لغة التنزيل الكريم، بل كان من أعلى علمائها مرتبة وحفظاً وفقهاً. لذلك لا نستغرب أن يندد بالعرب في عصره وهو العصر الذهبي للحضارة العربية الإسلامية، حين تقاعسوا بعض الشيء عن إتقان لغتهم و صونها، ففشا فيها اللحن حتى عند أبناء الصحراء على حين أتقنها لبلاغتها . ينادي في لزومياته ملك الشعراء امرأ القيس فيقول: استنبط العرب في الموامي بعدك واستعرب النبيط ماذا كان يقول في العصر الحاضر لو شاهد تداعي اللغة العربية في البلاد العربية ، حتى على ألسنة شعرائها وأدبائها .
إن المعري حير الناس في حياته وشغل النقاد والفلاسفة في مماته ولم تكن كلماته وقصائده ورؤاه فقاعات تطلق في الهواء ثم لا تلبث أن تتلاشى بل كانت مثار اهتمام الناس في حياته وبعد مماته .
خديجة بدور

المزيد...
آخر الأخبار