د.جودت إبراهيم يميز بين الشعر والنثـر ويوضح عناصر الاختلاف والتشابه بينهما.. النثر يعنى بتصوير الأحداث الجارية بينما يركز الشعر على رقة العبارة وجمالية الصور
خاض الدكتور جودت إبراهيم في آلية التمييز بين الشعر والنثر في محاضرة بعنوان :»في الشعرية والسردية «ضمن النشاط الدوري لفرع اتحاد الكتاب العرب في حمص إذ بين الدكتور إبراهيم كثرة الثنائيات التي انشغل بها الفكر الإنساني عبر اختلاف عصوره وكثيراً ما كانت الثنائيات وهذا الفكر يتجاذبان التأثير والتأثر على نحو تبدو العلاقة بينهما علاقة جدلية، ولعل الحياة الإنسانية لا يمكنها أن تُفسّر في معزل عن فكرة الأضداد و الثنائيات، والبحث في العلاقة بين الشعرية والسردية يُعد بحثاً في العلاقة بين طرفي ثنائية هي من أبرز الثنائيات في الفكر النقدي في مختلف الآداب و العصور، إذ إن الشعر والنثر جنسان عامان تندرج فيهما كل أفنان القول .
التمييز بين النثـر والشعر
ويرى الدكتور جودت إبراهيم أن التمييز بين النثر والشعر قضية ما برحت تستثير النقاد وربما كان أول ما واجه النقد الأدبي من مشكلات مشكلة التمييز بين الشعر والنثر ومشكلة التمييز هذه تقتضي في الآن نفسه وجود عناصر اختلاف وعناصر تشابه، أي أن الاختلاف ليس صرفاً، لأنه لو كان كذلك لكان التمييز من باب تحصيل الحاصل، كما أنّ التشابه الصرف يعني إن التمييز ليس له مسوغ، لأنه يغدو حينئذ ضرباً من اللغو أو العبث.
الموسيقا ميزة الشعر
ويضيف الدكتور إبراهيم : أن الحديث في ثنائية الشعر والنثر يقع في قلب نظرية الأجناس الأدبية التي نتلمس بواكيرها فيما بقي من تراث اليونان مما له صلة بالأدب، وفيه نلحظ أن الشعر كان في فترة ما الجنس الوحيد الذي ينطوي تحت ما سمي فيما بعدُ ( بالأدب)، حتى إذا جاء جورجياس أدخل النثر تحت جناح السنن البلاغي بوصفه خطاباً معرفياً وموضوعاً جمالياً، بعد أن كان هذا النثر وظيفياً خالصاً لا يزيد على أن يسجل الكلام الشفهي المألوف ويُستنتج من كلام لبارت (1915- 1980) أن جورجياس وجد الوزن و الموسيقى هما ميزة الشعر، ومنهما تأثيره، فراح _ من ثمَّ _ يبحث عن سبيلٍ للنثر كي يكون له تأثيرٌ أيضاً.
عجز أرسطو عن إيجاد اسم جامع للفنون اللغوية
ويرى الدكتور جودت عجز أرسطو في كتابه ( فن الشعر)عن إيجاد اسم جامع تنطوي تحته الفنون التي تتخذ اللغة وسيلة للمحاكاة نثراً كانت أو شعراً، وإذا كان ( فن الشعر) قد استغرقه الحديث عن الشعر، فإنّ كتاب الخطابة هو ما خصّه أرسطو للنثر؛ ولم يُغفل فيه الحديث عن الشعر في سياق مقارنة بعضِ ما فيه من خصائصَ بما في الخطابة وبقيت الحال كذلك حتى جاءت الرومانسية فراحت تدعو إلى التخفيف من غُلَواءِ الفكرة الكلاسيكية عن نقاء الأجناس، من خلال مَزْجٍ بين هذه الأجناس في صعيد واحد . «
الرومانسية ثارت على نقاء الأجناس الأدبية
وبين الدكتور جودت أنّ ما جاءت به «الرومانسية «من ثورة على فكرة نقاء الأجناس الأدبية كان المِهادَ الذي صدرت منه مختلفُ الاتجاهات الأدبية فيما بعد ويبدو أن ثمة التباساً وتشاكلاً بين بعض المصطلحات التي برزت في النقد الغربي قبل أن تنتقل إلى الدراسات النقدية الحديثة عند العرب.
مَكْمنَ الأدبيّة في استعمال اللغة خارج المألوف
ثم ينتقل المحاضر للتعريف بمفهومي «الأدبية والشعرية» ,ويرى أن كل واحد منهما مصدر صناعي مشتق من مصدر أصلي هو (الأدب) و (الشعر ) ولعلّ من أشهر محاولات تعريف الأدب تلك التي ترى أنه كتابة تخيّلية وليست بحقيقة، بيد أن ايغلتون يرى في كتابه (نظرية الأدب) هذا التعريف قاصراً على أن يفي الأدب حقه ، ومن هنا يمكننا القول أن مَكْمنَ الأدبيّة ماثلٌ في طريقة استعمال اللغة استعمالاً يخرج بها عن المألوف ونلاحظ أن مصطلح (الشعرية ) له من الشيوع ما يفوق به سابقه، على الرغم من أنه يحمل مفهوم ( الأدبية )، بل لعلّهُ يطابقه ،حيث تكون اللغة في آنِ واحدِ الجوهرة والوسيلة،. ومن الواضح أن ثمة تجاذباَ بين المصطلحين فكل واحد منهما يجتذب الآخر نحوه حتى ليبدوان كالشيء الواحد. «
أنواع الشعرية
ويضيف الدكتور جودت أن النقاد ميزوا بين نوعين من الشعرية مثل جان إيف تادييه الذي رأى كثرة الدراسات النقدية والمعاجم التي تحمل اسم (الشعرية) في القرن العشرين ليميز بين نوعين للشعرية : فواحدةٌ للنثر وأخرى للشعر . و على الرغم من محاولة هؤلاء في توسيع معنى الشعرية نجد من النقاد من لم يرتضِ أن تكون الشعرية شاملة ً كل الأدب بل قد قصرها على الشعر, منطلقاً في ذلك من اعتبار الأدب هو الجنس الكلي الذي تنطوي تحته مختلفُ الأنواع من شعرٍ ومسرحيةٍ وروايةٍ وقصةٍ وما إلى ذلك من أنواع. وبذا يكون الشعر نوعاَ واحداَ من الأنواع فحسب، ولايسعه أن يشمل الأنواع الأخرى وهكذا فلا يصحُّ أن نحمّل معنى ( الشعرية ) صفةً شموليةً تتجاوز الشعر إلى غيره من الأجناس ولا يكفينا أن نصف ما نقع عليه في النثر من ملامحَ شعريةٍ بأن نقول : إنّها ملامحُ أدبيةٌ ؛ إذ الحال أننا أمام شعرية النثر، وقل مثل ذلك في الشّعر؛ فعلى الرغم من أنه داخلٌ ضمن الأدب ؛ فإنّ مصطلح ( الأدبية ) لا يفي بما للشعر من خصائص ؛ لأننا إذ ذاكَ نكون تلقاء خصائصَ شعريةٍ لا يفي بحقها إلا مفهوم الشعرية .
أولية النشأة للشّعر أم للنثـر
وبين الناقد إبراهيم اختلاف النقاد حول أولية النشأة للشّعر أم للنثر؟ فتعددت آراء النقاد والمفكرين وذهبت إلى القول بأسبقية الشّعر ولكن هذا القول يعتمد الظنّ دون اليقين، ومن هنا فإنّ التشابه والاختلاف بين طرفي هذه الثنائيّة يمكن أن يُدرسَ في مستوياتٍ عديدةٍ أهمّها : – المصدر الإبداعيّ – والمستوى الموسيقى – والمستوى الدلالي ؛ – والمستوى التركيبي وفي الوظيفة والتلقي . أما من حيث المصدر الإبداعي فقد بدا لنا أن الفكر النقديّ قديمه وحديثه كان ينظر إلى الشعر وإلى الشاعر نظرةً كان يشوبها كثيرُ من الدهشةِ والعجب . ومن دلائل ذلك أنّ الشّعر كثيراً ما يُعزى إلى مصادرَ غيبيّةٍ أو (ميتافيزيقية )، ومن ثمَّ فقد كانت السيطرة تقع في الغالب خارج الإمكان . أمّا النثر ولا سيما حين يقترب من درجة الصّفر فغالباً ما يرتبط بالوعي والمنطق والتفكير ؛ ويكون إلى إمكان التحكّم والسيطرة أقرب .
الموسيقا هي الفيصل
ويتابع الدكتور جودت حديثه عن المستوى الموسيقي و يقول: ربما كان منتظراً أن يكون الخلاف في المستوى الموسيقي محدوداً، ولكن المرء يفاجأ حين يرى أن بعض المفاهيم الأساسية لم تجد حدّاً مقبولاً من الاتفاق بين الدارسين في اللغة الواحدة، وهو ما عبّر عنه رينيه ويلك بقوله : ( إنّ أسس الأوزان ومعاييرها الأولى ما تزال غيرَ أكيدةٍ ؛ وما يزال مقدارُ مدهشٌ من التفكير السائد؛ والمصطلحاتِ المشوشةِ أو المُزاحة عن مواضعها يوجد حتى في الدراسات القياسية) الاستعارة هي الاختراع الشاعريّ الأول ,وبين الدكتور جودت أن بعض منظّري قصيدة النثر حاول أن يلتمس لها خصائص موسيقيةً,وبين الدلالة الشعرية دلالة عائمةٌ غائمةٌ تنفر من الدقّة والتحديد. ولذلك كان ديدنُ الشعراء مُذْ وُجدَ الشعرُ أن يلجؤوا إلى المجاز والاستعارة بدل الحقيقة، فكانت الاستعارة هي الاختراع الشاعريّ الأول؛ الذي مافتئ يمثّل للشعراء هماً دائماً، يتوقون إلى الظفر بالطريف منه .
ولا يمكن أن نُغْفِلَ رأي من رأى أن الاستعارة ليست مما يختصّ به الشعر فحسب، باعتبار أن في لغة النثر مالا يحصى من الاستعارات مما يكاد يكون مستعملاَ في كل آن .
أخيرا يختم الدكتور جودت محاضرته بأنّ ما مضى من اختلاف بين طرفي ثنائية «الشعرية والسردية « لا بدّ أن يعود إلى اختلاف في الوظيفة والتلقي معاً ,ولكن الوظيفةَ الجماليةَ لفنِّ القول تبلُغُ أقصى درجاتها في الشعر؛ إذ هو فنٌ ينأى في أفضل نماذجه عن الغائية .
ميمونة العلي