كنتُ في وظيفتي اليومية أتجهز للمغادرة، وأنا حقاً في حيرة كبيرةٍ. تتنازعني الرغبةُ في السفر تارةً، وتارةً يغلبني هَمُّ المنخفض القادم . وبينما كنتُ أتأرجح على حبال الحيرة ،انتشلني رنين الخليوي المفاجئ ، في الحقيقة هو نادرا ما يسمعني رنينه ، لا أعرف ربما لأني قليلة الاتصال والتواصل مع الآخرين ، وربما لأن الآخرين قد اعتادوا بُعدي فلا أخطر على بالِ أحدهم ، وربما لا أحد يحب أن يكلمني أو يتحدث إليّ والله أعلم ، وربما.. وربما …
المهم أن رنين الخلوي كما الأرضي بالنسبة لي نذير شؤم وهمٌ جديد ، وإلا ما كان ليرن أصلاً ، أما بالنسبة للأولاد وطلباتهم والنكد المتواصل فنحن على موعدٍ معه في البيت لاحقا ، فما هو سبب هذا الرنين يا ترى ؟!
_ألو : مرحبا
كيفك ؟ سمعتِ أمي عطيتك عمرها
البقية بحياتك سأجهز حالي حتى أكون معكم ….
في الحقيقة لقد حزنتُ لكن قليلا ولم أكن أتوقع أن أحزن أصلاً
لا أعرف ربما لأن الموت فقَدَ رهبته ، ربما لأني فقدتُ الأغلى والأقرب وأصبح الباقي تحصيل حاصل، ربما لأنني عشتُ بعيدةً عن أجواء الأهل والقرابة فلم ألمس ما يدعونه بكيمياء القرابة وصلة الرحم، ولم أحس بإحساس الدفء والعطف ، كي أحزن على فقده اليوم .
المهم أنني عدتُ مسرعةً إلى بيتي ، طبختُ أرزا وفاصولياء ودخلت أبحث عن السواد الذي أكثرتُ من اقتنائه مؤخرا كي أرتديه مجددا ، ورغم ذلك ما كنتُ لأجد أبدا ما أريد (وليكتمل النقل بالزعرور) هو مثل عربي وهو أيضا مثل متداول في مجتمعنا
انقطعت الكهرباء ولم أعدْ أميز أصلا ألوان الملابس لأختار ما أريده منها .
تدبرتُ ما تيسر وتوكلتُ مسرعةً باتجاه بلدة العزاء وأنا أضرب وأجمع وأطرح أفكارا قد يتداولها بعض المحبين أقصد المغرضين من قبيل من سيتناولون تأخري على محمل التعليق .. (لم تحضر دفن قريبتها ..وما .. و… وأخيرا وصلتُ البلدة بعد عدة تنقلات وسيارات ، فالمكان بعيد نوعا ما .. وهممتُ في اعتلاء هذه الدرب الحجرية الموحلة ،هي قريةٌ والمنخفض لا يرحمها أصلا وقلبه قاسٍ جدا على بيئة جبلية كهذه ، أسعفني الحظ بجرعة تفاؤل عندما نظرتُ أمامي وأنا أتمتم بعض الكلمات .. برد ورعد وتلج وريح ووحل فلقد رأيت أمامي على هذه الدرب المتكسرة المردومة صخورا كما لو كانت مجرى لنهر قد جف أو ما شابه وإذا بنظري يأخذني إلى ( رحيق ) .. إنها قريبةٌ لي ومنذ أمدٍ بعيد لم أراها
أنا ألهثُ أنفاسي وهي تعاني مما أعانيه وأكثر ولكن بابتسامة مرهقة وتحمل مظلتها وترفع بصعوبةٍ قدمها الطويلة لتعادل في سيرها قدمها الأ قصر
مسكينةٌ كم كانت تعاني في طفولتها بسب خلع الولادة هذا ؟! والآن أصبحت تعاني أكثر لقد أصبحت أكثر وزنا وأكبر حجما لتحملها قدمان متباينتان في الطول والوزن .
صافحتُها بشغفٍ وتمنيت لو أني أستطيع أن أترك الموت لأهله وأبقى برفقتها كي أساعدها على هذه الدرب الصعبة ، فأنا لن أستطيع أن أقدم شيئا أكثر من حضور الدفن ومراسم العزاء .
عندما اعتذرتُ من الغالية رحيق أجابتني قائلةً : اعذريني يتوجب عليَّ الإسراع كي أحضر مراسم الدفن … تفهمتْ بطيبٍ وقدمتْ التعازي بكل لطفٍ.
المهم أني وصلتُ أخيرا المفرق الرئيسي الذي قادني إليه هذا الدرب فأنا ما كنتُ لأتذكره أصلا
وبدأت ألتقي بالناس وهم يغادرون المآتم ، طبعا المطر مستمرٌ ولم يتوقف وعيناي بالأرض تارةً وتارةً أرفعها كي أرى من الذي مرَّ بجواري وفي أغلب المرات ما كنتُ لأعرفهم الكل تغير ، الصغير كبُر و الكبير شاب .
دخلتُ دار العزاء وبدأت التعازي ، الناس ما أكثرهم؟! وما أبرد أيديهم ؟! الكل وخصوصا في الموت صاحب واجب وسبّاق إلى الحضور .
دخلتُ غرفة النسوة الباقيات وسلمتُ على جميعهن وعزيتهن وعزوني لكون المتوفاة قريبتي وعندما انتهيت بعد وقتٍ لا بأس به من واجب العزاء
اخترت مكانا لأجلس به وهو طبعا بجوار أمي التي كانت بين المعزيين صافحتها وسلمتْ هي بدورها عليَّ بحرارة وقالت: أهلا يا ابنتي لذلك نظرتُ إلى أمي مبتسمةً وجئتُ لأجلس قربها وقلت لها مجددا : كيف أنت يا أمي ؟
نظرت إلي باستغرابٍ وحدقت بعمق في وجهي وقالت :
من ؟؟ وردة !!! لم أعرفك كيف حالك يا أمي ؟ كيف صحتك ؟! كيف أولادك ؟!
بدأت تحت وقع الأسى والأسف أوزع ابتسامات الخجل والعتب من وعلى الزمن الذي جعل أمي الطيبة لا تعرفني
لقد صافحتني بحرارةِ الأم حقا رغم أنها لم تعرفني بدايةً وكأي فتاةٍ عادية من شدة طيبتها وحبها للجميع ولم يجعلني سلامها هذا أحس للحظة أنها لم تعرفني ، لولا أنها عندما ناديتها أمي أجابتني باستغراب ودهشة كبيرين: من ؟؟؟ وردة!!!! عندها فقط عرفتُ أنها لم تعرفني بداية الأمر .. من ؟؟ وردة !!! وذهبت مثلا .
نرجس عمران