قليلون هم الذين يعطون ولا يأخذون وكثيرون هم الذين يتربعون على العروش ولو أُنصفوا لحكم عليهم بأقصى العقوبات ,أبو حامد واحد منهم رحل تاركاً تاريخاً طويلاً ممزوجاً بالألم والمرارة لأم حامد التي صبغ الدهر شعرها بالبياض بينما صبغته بالحكمة والحنان…. الحزن يلف جميع الحضور فهم يودّعون والدهم بعيون باكية…و أم حامد تنوح بصوت منخفض تارة ،وتلم أبناءها تارة بالصبر وتارة بالحب.
جميع المعزين يكررون عبارة : «من خلف ما مات » فقد ترك وراءه أربعة شباب أكبرهم حامد وأصغرهم محمود ثلاثة أطباء ومهندس.
عُرف المرحوم بالصلابة ..تباهى بنفسه وحسبه ونسبه …أما أم حامد التي تتقدم الجنازة كفكفت دموعها ولملمت مصابها بنواح يكاد لا يسمعه أحد … ودّعه الجميع إلى مثواه الأخير وعادوا إلى المنزل لإتمام الواجب في تقبل التعازي لكن البيوت أسرار وسر أبو حامد في معاملته لأهل بيته دفن معه فقد كان أبو حامد جباراً تزوجته منذ خمس وثلاثين سنة , أُعجبت بشخصيته وحديثه بالإضافة إلى نسبه العريق ، لم تكن تعلم أن حديثه المنمق وشخصيته البارزة تعكس طبلاً فارغا يلفه جبروت الأنا المتورمة ….، ابتليت به وبلعت مرارة الحياة معه … مثل الكثيرات من النساء في مجتمع ينظر بعين الريبة للمطلقات …. ، تفرغت لبيتها ولطلباته التي لا يكل ولا يمل في طلبها ، أتلفت جسمها بالركض أمامه لتسكته وترضيه ،حاولت التخفيف من حدة طبعه وغطرسته دون جدوى… كان الآمر الناهي يدّعي الديمقراطية ويطبق الديكتاتورية …فعلت المستحيل لئلا ينعكس تأثيره السلبي على أبنائه, كانت السعادة الزوجية بعيدة عنها بعد السماء عن الأرض .داست قلبها … لأن الأبناء بحاجة للحب والحنان والدفء …قبلت بدور الجارية في مسرحية تراجيدية . قالت لصديقة مقربة منها :»هو الملك ونحن الرعية.. أنا و الأولاد خلقنا لتنفيذ أوامره إن حاول أحد معارضته أو عمل على مناقشته كان الحزام يتكلم عنه ، كنت على يقين تام بضعفه وهذا ما دفعه لاستخدام الحزام لعدم قدرته على مناقشة الآخرين وبذلك يجعل الحزام هو الخصم.
قضيت سنوات عمري في الشقاء عشت في أحضان الذل والمهانة ، رغم ذلك كنت أحبب أبنائي بأبيهم …هو يغلط وأنا أبرر لا محبة بزوجي بل محبة بأبنائي ..فهو الأب له كل الاحترام …مهما فعل لا يمكن أن نبادله العصيان …هذا ما زرعته في نفوسهم وما ربيتهم عليه . كانت ابتسامتي الدائمة عنوان المحبة تقربني من أبنائي بفرح غامض…. ، زرعت في نفوسهم التسامح علمتهم الصبر بالعمل …،أي عمل شريف يؤمن مصروفهم أثناء الدراسة لأن «أبو حامد «لم يكن يسعى لتحسين دخله طبعاً كانت هناك علامات استفهام كثيرة حول تربيته لأبنائه وخاصة من المقربين كيف وصلوا إلى أعلى درجات العلم رغم معرفتهم به … ، ما كرهته في والدهم أبعدتهم عنه حتى أصبحوا رجالاً يُضرب بهم المثل في الاجتهاد والكفاح والأخلاق لذلك حاز كل منهم بتاج مرصّع بالعلم والفضيلة . لم أبح لأحد يوماً بما أعانيه وما أعمل له لأن ما توصل إليه أبنائي تاجاً أفتخر به . عشت لأجلهم وأديت رسالتي عبر سنوات الكفاح الطويلة .وأحمد الله دائما على ما آلو إليه… ، حرمني السعادة ،خبأت دموعي لأفوز بابتسامة رضا على وجه أبنائي . طغى وظلم ثم انطفأ لم يسعد أحداً ولا حتى أسعد نفسه… ذكراه أصبحت غصة مؤلمة تجرح القلب وتدميه».
خديجة بدور
المزيد...