حصار الجدران وضيق النوافذ.. القاص (غسان كامل ونوس) في مجموعة (مفازات)

الأديب (غسان كامل ونوس) في مجموعته القصصية (مفازات) يقدم نمطا سرديا بضمير المتكلم عبر وتيرة لغوية ونفسية متواشجة، مما جعل قصص المجموعة أشبه ما تكون بسرد روائي مقسم إلى فصول عدة؛ بل حتى القصة الواحدة قد تنقسم بدورها إلى أجزاء، ولكنها تتضافر فيما بينها لتشكل القصة التي هي بدورها جزء من الهيكلية العامة للمسرود الذي يشكل لوحة فسيفسائية تضم قطعا مستقلة ضمن هيكلية عامة. أو بمعنى آخر يشكل السرد القصصي حركات (هارمونية) ضمن (سيمفونية) تشكل بوحا وجدانيا ذا مستويات، قد تتباين، ولكن ضمن التركيبة العامة للعمل بصورته النهائية الذي يرصد غربة الإنسان الطيب في عالم تحكمه أنظمة الشر دون قوانين مبررة؛ فتبدو أنماط القص هذه تلتقي مع تعريف (أوكونور) للقصة القصيرة بأنها (الوعي الحاد باستيحاش الإنسان).
* * *
سنتناول بالنقد من زاوية محددة هذه المجموعة القصصية ضمن المحور الأساس الذي شكلته القصص الأربع: (ملاحقة- الجدار- الكوة- المفتاح). والتي تشكل مفهوما واحدا ضمن سياق السرد. (فإشارات الراوي إشارات ملازمة للقصة، ويمكن الوصول إليها، في النتيجة، بتحليل إشاري سيميولوجي). وبالاعتماد على تلك الإشارات قاطعنا القصص الرئيسية مع القصص الأخرى في المجموعة ذاتها لتشكل محورا رديفا، أو بمعنى آخر جزءا خارجيا- إطارا- من المحور ذاته، وذلك حسب الزاوية التي ننظر فيها إلى القصص جميعها، لنخرج بنتيجة مفادها هذه الدراسة التي تناولت المجموعة دون إغفال الرؤية الفنية، والثقافية، للكاتب.
* * *
ولا بد من الإشارة أولا إلى أن المقبوسات الواردة أرقام صفحاتها، هي من القصة التي حملت عنوان الجزء المعنون بإحدى عناوين القصص الأربع. أما المقبوسات التي تليها عناوين القصص، فهي من قصص المجموعة المتبقية.
قصة ملاحقة
القصة تقحم القارئ بأجواء الحصار من المقطع الأول: (إنه يسأل عنك..! قال ومضى؛ شيعته حتى غاب عن ناظري. لم استفسر منه. ولم أتفوه بكلمة. فليس أول عابر ينقل إلي الخبر؛ سبقه عشرات ممن أعرف ولا أعرف. ص37).
نستنتج أن بطل القصة مطارد من شخص مجهول، لغاية غير مصرح عنها، ويجهلها حتى بطل القصة الذي لا يُذكر اسمه أو صفاته. كسائر أبطال القصص الذين ينحصر حضورهم في تلقي الانعكاسات، ورصدها. لهذا اقتصرت حياة بطل هذه القصة على محاولات تخمين سبب المطاردة المفاجئة، وشخصية المطارد الغريب. ولكن محاولة المعرفة تلك شتتت البطل وزادت من حيرته، بدلا من أن ترشده وتدله.
وضمن هذا المجال القصصي اللامنطقي بغرائبيته، لا يشترط أن كل ما يرد هو حقيقة واقعة. ونتيجة لذلك قد تكون المطاردة وهمية، والمطارد غائب، مادام العالم هلاميا لا صورة جلية له: (اتهمت نفسي بأن كل ما يحدث، وما سمعت وتسمع، ليس سوى هذيان أو تهيؤات لا أصل خارجيا لها، ولا صدى أو نتيجة. ص40).
وربما أوهم هذا البطل نفسه أن أحدا ما يطارده، كي يشعر بوجوده المفتقد، أي أنه افتعل أمر المطاردة المزعومة عله يهدم جدران العزلة من حوله، أو يفتح كوة صغيرة في جدار أصم لا يقوى على تحطيمه.
والمطاردة تتكرر في قصة أخرى، وبطريقة غير مستورة، بل بمباشرة مكشوفة تصل لدرجة المصادمة: (لكني بعد وقت بدأت أظن أنه يترصدني؛ فمن غير المعقول أن تتكرر المصادفات إلى هذه الدرجة. ص51). (قصة قناعة).
ولعل مثل هذه المطاردات من الداخل، أي أن يطارد البطل نفسه عبر هواجس قسرية لا يستطيع التخلص من ربقتها. وهذا الافتراض ممكن مادام كل أبطال القصص ليس في حياتهم غير خيالات جوانية وهمية. فالأبطال منكفئون على ذواتهم التي تتمحور بدورها حول نفسها في حركة لولبية لا تقدم فيها، ولا تبدل في طبيعتها.
قصة المفتاح
هذا السجن المبني من جدران عالية سميكة لا تخترقها غير كوة صغيرة، قد لا تكون غير خيوط وهمية رسمها العفن على مساحة الجدار الأصم. فهل يمكن أن يكون له باب وحيد؟! وفي حال كان ثمة باب- ولو افتراضيا- فكيف ستكون ردة فعل بطل القصة المسجون، وهو قد يكون السجان في الآن ذاته.
بالطبع الباب سيكون في حال وجوده مقفلا، لهذا السبب سيكون المفتاح العامل المشترك لكل الافتراضات المخمنة عندئذ، ومن هنا حملت هذه القصة عنوان المفتاح.
ولكن من استخدم هذا المفتاح لإغلاق الباب؟! وهل أغلقه المطارد المجهول؟! أم أغلقه المحيط لعزله، أو لإقصائه: (لم يسألني أحد عن رأيي، لم أطالب بحقي في الكلام. ص22). (قصة الصوت).
وربما أغلقه البطل كي يحمي نفسه من مطارديه، أو أغلقه المطاردون. فهل هذا البطل مسجون أم مختبئ؟!.
وبغض النظر عن سبب إغلاق الباب، فالمفتاح غائب: (الباب موصد، والمفتاح ليس في جيبي. أو يمكن أن يكون كذلك؛ فأنا مسجون إذا، ولا قدرة لي على الخروج من هذا القبر الواسع. ص78).
ومهما تكن النتيجة، فالبطل ليس حيا تماما، فهو مسجون في حيز خارج الحياة، وان لم يكن ميتا.
وبالتأكيد لن يفتح الباب، فالبطل لم ولن يفعل، فليس ثمة إشارة إلى تمرده وحضوره الفعلي على مساحة الحدث، لهذا فالبطل يكتفي بالتقوقع في شرنقة أحلامه، ولا يفكر في كسر الباب الموصد عليه؛ بل يخاف من كسر الباب، لا أستطيع المواجهة؛ لا أقدر، لا أستطيع.. خطا وجلبة وأصوات.. طرق متواصل على الباب. ص88). (قصة تلك الرحلة).
ودائما نهايات القصص مفتوحة على احتمالات الحيرة الهلامية، فليس هناك ثمة ضوء من كوة صغيرة في جدار أسود كتيم: (ماذا بعد؟! السؤال الذي بدأ يتسع، ويتمدد.. يشوك الأوقات، ويفرض أسئلة أخرى تتكاثر. ص49). (قصة الإنجاز).
خاتمة
(مفازات) في المعجم جمع مفازة، وهي: الصحراء الواسعة التي لا ماء فيها، والموضع المهلك؛ ولكنها سميت بذلك تفاؤلا بالنجاة، فهي من الأضداد. ولكن هذا المعنى الايجابي لم يكن مقصودا في دلالة عنوان المجموعة القصصية بذاته.
أما عناوين القصص الأخرى (الجدار- الكوة- المفتاح) وأيضا (ملاحقة) فقد أتت بمعناها السلبي أيضا. ومن هذه الزاوية قرأنا قصص المجموعة، وشكلنا المحور الذي بنينا عليه دراستنا هذه.
* * *
وقد نجح الأديب (غسان كامل ونوس) في فرش سرده بمساحات من المعاناة التي ليس فيها مكان للفرح، فمكانها الهلاك لا غير. أما مكان النجاة فلا وجود له في القصص، لأن أبطاله في عزلتهم لا يعرفون أن المفازة يمكن أن تكون حيزا مفتوحا على الفضاء، فهم منكفئون في نطاق ضيق محاط بجدران لا تخترقها كوة صغيرة، والباب موصد، ومفتاحه يعلوه الصدأ، فلا أحد يجرؤ على استخدامه أبدا؛ لهذا صبغت القصص الأجواء (الكافكاوية) الملتبسة.
سامر أنور الشمالي

المزيد...
آخر الأخبار