قصة … عندما يسافرُ البحر!

خيط مطريّ ترامَى على ساحل البحر، حصل جفافٌ بعده، بل غرق السّاحل في البحر؛ الزّمن نام نوماً أبديّاً، أزهار الفرح تساقطت، تحوّلت إلى حجارة صلدة، النفوس صارت قطع جليد صخريّ! تناهَى نبأ من أعماق البحر يقول:
فُقِئت عينا «السّبع»، جرّحه الزّمن الآتي من أعماق البحر، لم يدرِ «السّبع» سبباً مقنعاً كي تُفقَأ عيناه، ذنبه أنّه كان طيّباً، و «الطيّب غبيٌّ في أيامنا»، تأكله «الغربان»، و يرمى على خشبة العمر.. أورادٌ زاهية اللون، صار وجهها بلون الليل! صوتٌ خشن يترامَى من وراء صخرة جاثمة قرب السّاحل:
– مَنِ القادم؟
إنسانة تبحث عن صنو روحها، عن نفسها، عن فرحها، عن «سبعها»، عن حروف أبجديّته!
ارتفع صوت مبحوح من وراء سُحب الهمّ يقول:
مَنْ أنتِ أيتها الصبيّة، ماذا تبغِين؟
أنا زهرة العمر يا سيّدي، أبحث عن «ورقة مُونقة» سقطت منّي، لعلّي أصنع منها تاجاً ذهبيّاً..
لا «ورقة» لدينا، لا أغصان، لا بستان، ابحثي في أعماقك عن «الورقة»!
أعماقي؟ أعماقي صحراء مقفرة، لا نبات فيها ولا مطر..
إذن مَنْ أنتِ؟
سنديانة ضائعة، تبحث عن أرضٍ مفقودة.. سُرِقت الأرض، صار الحزنُ أرضاً، عكّازتي تضرب في دروب الحزن!
حزنُك عاصفة، لكنّ العصافير تغرّد في ليل الهمّ!
* * *
بغتةً مرّ أمامها شيخٌ طاعنٌ، سألته:
يا شيخُ، بالله عليك.. هل رأيتَ أرضاً، تجمع تربتها، شجرَها، بحرَها، وتسافر؟!
بدهشة واستنكار، ردّ الطاعن:
كلامُك غريب عجيب! خرافة ما يُقال.. هل سقط البَرَدُ على لسانك، فجعلك تلفظين كلماتٍ صمّاء، وحروفاً خشبيّة؟!
يا شيخُ، صار الحزن ساحاتٍ للعب الخيل، نبت الجفاف حقيقة لا حلماً.. رماداً صار الكون.. في ضياعِه، غاب فرحي..
بطريقة «المونولوج»، نبسَ الشيخ لنفسه: «هراء ما أسمع.. صبيّة في شرخ الصِّبا، تقول كلاماً، ليس فيه لون الفرح، أو وهْج الرّبيع! لماذا كلّ هذا التّخريف»؟!
قالت الصبيّة المُلتاعة:
يا شيخُ، سقط الفرح في كهوف الأبديّة، رقدَ، متحجّرةً صارت عيونه.. لم تعد هناك غيوم بِيض في ذاكرة الزّمن، فالزّمن ارتحلَ هو الآخر!
بالقرب منها، مرّ عابرُ سبيل، كان يلملمُ أشياء تافهة، خردواتٍ عتيقة، تمتم:
الزّمن قاهر.. العمر سراب.. الحياة مطرقة وسندان!
حاول عابر السّبيل أن يخاطب الصبيّة الملتاعة، أن يخفّف عنها بعض وجعها، جليدياً وداكناً كان وجهها، ووجه الكون كان كذلك! عادت بها ذاكرتها إلى الوراء، تذكّرت «غُصنَها» الرّطيب.. «ساحلَها» الفسيح، سندَها القويّ، عصفت بقلبها كلماتُه قبل الرّحيل والغرق:
سأجمع لكِ وهج الشمس، ضوءَ القمر، لننعم معاً بالدّفء والنّدى، ونعيش شهد العمر، وعسل اللقاء – لقاء الرّجال – أجابته يومها:
وجودُك قمري، شخصُك مطر..
بطريق التّداعي، عصفت بها ذكريات وذكريات.. لم تعد تتذكّر إلّا «سبعها»، الذي اختفى، الأغلى من كنوز الدّنيا، حيث ربط إلى خشبة الفَقْد، بلا أدنى ذنب، أو أيّة جريرة!
* * *
رجل رثّ الهيئة، يطوف المكان، يتقرّى وجهَ الصبيّة المُلتاعة، يقول بكثيرٍ من الأسَى والألم:
يا صبيّة، قلبي هو الآخر مدخنة غضب، وجهي كوجهك مُترَعٌ بالآهات والصّرخات..
لحظتها، كانت الصبيّة مملوءة بِشَكَاةٍ من هذا الزّمن المالح.. بشيء من رحمة وتلاحم، رمقتْه.. لكنّها لم تنبس بكلمة.. كانت عيناها تلاحقان آخر رمح للشمس، وهي تعلن الرّحيل.. من براكين قلبها المُعنّى، نبت كلام باهظ بائس: «جسدُه خارطة الكون! داسته أمواج الغدر، غيّرت وجوه المدن، ومَفارِيح الحياة».. صورته بآخر لقاء، خلق بذاكرتها أسئلة مبعثرة، ضيّعتها ريح مجنونة، قالت بِسرّها، بوجع دفين: «.. غيابُه يومذاك، لَملمَ بقايا الفرح منْ وجوه الأطفال؛ لحظتها، كانت الدّنيا، داكنة اللون، الطريق المنظور، كان سديماً وضباباً وسواداً»!
عندما أخبرها أحدهم، بالنّبأ الصّاعق، وصلت السّاحل البحريّ.. وجدت في أمواج البحر كلّ مواجعها.. المدّ الزّمنيّ، كان قد غمر البعدَ الآخَر للكون.. و»الورقة الذهبيّة المونقة»، كان الموج الغدّار، قد حملها عبر التيّارات البحريّة النّشطة..
* * *
صاح الواقف عند المَرْقب:
«عند الجزْر، تضيع الأشياء.. القريب يصبح بعيداً.. النّور يغدو ظلاماً دامساً».. أردف: «مَنْ يردِ الإبحار، يسبق طلوع الشمس»..
قالت الصبيّة المحزونة، والألم يحاصرُها كجزيرة:
صفحك.. أيعود المدّ، والسّفن الرّاحلة»؟!
لا أدري.. الدفّة في الإعصار، قد تخونُ مهارة القبطان.. والبحر يطوي في أعماقه الأسرار…
صمتٌ.. صمتٌ.. صمت …
وجيه حسن

المزيد...
آخر الأخبار