يُقالُ في كتبِ النَّقدِ الأدبيِّ أنَّ الرِّوايةَ لا تكونُ روايةً إلَّا إذا ضمَّتْ بين ضفَّتيّ غلافها عالماً متكاملاً أحداثاً و شخصيَّاتٍ .. و يقالُ أيضاً أنَّ القصَّةَ القصيرةَ أو الأقصوصة هي نموذجٌ مصغَّرٌ للرِّوايةِ يحملُ جزءاً هامَّاً من سماتها الأدبيَّة ,لكنْ بشكلٍ موجزٍ.
والقاصة غادة اليوسف قدْ أسقطتها سمةً على أقصوصتها « المنديل « المنشورة ضمن مجموعتها القصصية المعنونة ب «في العالم السفلي « فمزجتَ بينَ الجزئيَّاتِ و الكلِّيَّاتِ و جعلَتِ الابنَ سرَّاً لأبيهِ فعلاً في قصَّة المنديل , وهذا يظهرُ واضحاً جليَّاً من تحليلاتِ الكاتبةِ لشخصيَّاتِ قصَّتها و تعاملها مع بعضها البعض ,و توضُّعها كأركانٍ ضمنَ المنجزِ الإبداعيِّ الَّذي يتلقَّاهُ القارئُ دفعةً واحدةً ,و لا يستطيعُ كشفَ تلكَ الحيثيَّاتِ إلَّا بتكرار القراءةِ و إمعان النَّظرِ فيما يقرأُ,حيث تنقلُ لنا الكاتبةُ في هذهِ القصَّةِ تجربةً فرديَّةً لشخصيَّةٍ متنوِّعةِ الآلامِ و هي شخصيَّةُ الطِّفلةِ البريئةِ حنين و الَّتي من تجربتها الفرديَّةِ تُقدِّمُ لنا قضايا اجتماعيَّة تشكِّلُ الجوهر الحقيقيِّ لخمولِ تقدُّمِ المجتمعِ و سكونهِ.
تركيبُ الشَّخصيَّاتِ
و هذهِ من أهمِّ النِّقاطِ الَّتي ينتبهُ إليها القارئُ المتمرِّسُ في هذا النَّصِّ الرَّاقي, حيثُ تقدِّمهُ لنا الكاتبةُ برسم رائع للشَّخصيَّات , رسم متقن مشغول بعناية مع اختيار دقيق جدَّاً للألفاظِ و الأسماءِ و الأماكنِ و أسلوب متين لتوضُّع الشخصيَّاتِ و ترتيب ظهورها ، و إذا ما دلَّ فيدلُّ على فهمٍ عميقٍ صحيحٍ و حقيقيٍّ لبنيةِ المجتمعِ الَّذي تعرضهُ الكاتبةُ في نصِّها هذا … فاختيارُ اسم حنين و عبد الصَّمد و رهف و علي و سامي و سارة لم يأتِ من العبثِ أو بشكلٍ عشوائيٍّ ,الشَّخصيَّة الوحشيَّة متمثِّلة بالمدير أبي الخير . الشَّخصيَّة المنقذة رفيقة الدَّرب متمثّلةً بالمرشدة النَّفسيَّة . أمَّا بالنِّسبةِ للإيجابيِّين فهم زملاءُ الصَّفِّ الَّذينَ كما أوردنا مدُّوا يدَ العونِ لها و تركوا الاستهزاءَ بها و التَّنمّر عليها… أمَّا المتنمِّرُ الأعظميَّ المزعجُ فيتمثَّلُ بشخصيَّةِ عبد الصَّمد الَّذي لا يكلُّ و لا يملُّ من إزعاجِ الضَّحيَّةِ البائسةِ بطلةِ القصَّةِ الفعليَّةِ الطِّفلة حنين … و نلاحظُ الرَّمزيَّة المهمَّة في هذه الشَّخصيَّات ,في المدير المعنِّف و المرشدة المنقذة كما نلاحظُ تحوّلاً جوهريّاً لدى جميع الشَّخصيَّات من السيء إلى الجيِّد سواءً في حنين الَّتي تحوَّلت إلى تلميذة نظيفة مرتَّبة و التَّلاميذ الَّذين تركوا الاستهزاء بها … أمَّا عبد الصمد فلمْ يتغيَّر حتَّى الختام … و لهذا رمزيَّة خاصَّة يفهمها كلُّ قارئٍ من موقعه ,و لكنْ يمكننا القول: إنَ شخصيَّة المتنمِّر بقيَتْ مهيمنة على البطلة على طول المسار الزمنيّ لأحداث القصَّة. عنصر التَّفاؤل نلاحظُ في هذهِ القصَّة بشكلٍ واضحٍ و جلي ميل الكاتبة إلى عنصر التَّفاؤل و عدم ميلها إلى التشاؤم – على الأقلّ عند ختام القصَّة – حيثُ أنَّها توردُ نهاية سعيدة لقصَّتها تحقِّقُ فيها الطِّيبة لجميع الشَّخصيَّات عمَّا كانوا عليهِ في أوَّل القصَّة .
نصّ شامل
من المهمّ أيضاً أنَّ الكاتبة في قصَّتها القصيرة هذه التَّي لا تزيد على العشرين صفحة من القطع المتوسِّط استطاعت أنْ تنقلَ و تعرضَ أهمّ المشكلات و القضايا الهدَّامة في مجتمعنا من التَّنمُّر إلى الفقر و الفشل التَّربويّ فسوء التَّعليم و الوحشيَّة في التَّعامل و عدم الشُّعور بوجود الآخر أو الأنانيَّة إلى مختلف السَّلوكيَّات السَّلبيَّة في المجتمع ، بأسلوب مشوِّق غير ممل و طرحها لمحاولات أو مشاريع حلول إضافةً لبثها روح التَّفاؤل للمتلقي و عدم تقديم المحبطات كما سبقَ و أوردنا مع احتوائها على السَّرد و الحبكة و الذُّروة و الرَّسم المتكامل للشَّخصيَّات … تكون قد قدَّمت غادة اليوسف مثالاً متكاملاً عن جنس القصَّة القصيرة بأبهى حلله و أوصلتنا إلى عمق هدفه الجماليّ و غايتهِ التَّعبيريَّة .
ختاماً
نقطة تحسب للكاتبة وهي عرضها لمشكلة التنمر وهو مرضٍ اجتماعيٍّ مشهور و السِّرُّ وراء ذلك هو خوضُ الكاتبةِ للعديدِ من التَّجاربِ المتنوِّعةِ في حقل التَّعليم و حقل القضاء .. رأتْ فيهما حالات اجتماعيَّة مجرَّدة و نقلتها لنا بأسلوب أدبيّ جميل جدَّاً يجعل القارئ ينسجمُ مع أحداث العمل المقروء و يتقمَّصُ لا إراديَّاً شخصيَّة بطل القصَّة و يشعر بآلامهِ و معاناتهِ و تنادي علينا أن نراجعَ أنفسنا و نفكِّر و لو لمرَّة واحدة من موقعَ الآخرِ و أنْ نشعرَ بهِ و بوجودِهِ كما نشعرُ بوجودنا … و تنادي علينا أيضاً بألَّا نقرأَ قصَّة المنديل قراءةً عابرةً و نكتفي بتخزينها في الذَّاكرة مع ركام السَّرديَّات أو نسيانها بكلّ بساطة … بل إنَّها توقفنا بحزمٍ أمام شخصيَّة المرشدة الاجتماعيَّة و تصرخُ من عمقِ الألمِ بأنْ نفعلَ شيئاً … وبأنه علينا جميعاً أن نكونَ رهف الَتي أحضرت عبوات سائل الاستحمام و سامي الّذي قدَّمَ دفاتر و أقلاماً و ممحاةً و مسطرةً و سارة الَّتي أهدت فولاراً و عليّ الَّذي جلَّدَ الدَّفاتر و الكتب بعد كبسها في المكتبة و سمير الَّذي أصلحَ لحنين حقيبتها و درزَ سحَّابها المتدلّي … و ليس علينا أن نكونَ كعبد الصمد الَّذي استمرّ في ركلها في الباحةِ و الشَّارعِ عند الانصراف … علينا أن نكونَ المرشدة الاجتماعيَّة الحنونة المتفهّمة الواعية علينا أن نعوِّدَ أنفسنا على أن نكونَ تلك الشَّخصيَّات الإيجابيَّة لا السَّلبيَّة إنَّ هذا النَّوع من القصص يقدِّم لنا منديلاً لنجفَّفَ بهِ دماءَ جرحنا الاجتماعيّ و قدْ أفلحَ من أخذَ هذا المنديل بقلبٍ سليمٍ وعقلٍ واعٍ … أمَّا من أهملَهُ عليهِ أنْ يتنمَّرَ على ذاتهِ المريضة البائسة.
حيدرة عيدة
المزيد...