الصوفية حاضرة بقوة في (تلك الأيام ) ليوسف سامي اليوسف

نتابع في هذه المادة ما كتبته الأديبة غادة اليوسف عن كتاب (تلك الأيام )للأديب الفلسطيني المولد, السوري الإقامة الراحل (يوسف سامي اليوسف)فتقول :
في الجزء الثاني لسيرته الذاتية، والتي يستهلّها بإهداء إلى الحميم الغائب، إذ تصل به اللوعة إلى حد يقول عنده:
« ،فجيوش العالم وقواها تكاتفت لخدمة إسرائيل، إنّ اللؤم هو محرّك التاريخ، ويؤكد أن الغيتو الصهيوني ، العالة على المجتمعات، قد نبع من آبار النفط العربية، وأنه سوف يجفّ يوم تجفّ تلك الآبار، التي كانت نقمة على العرب أكثر مما كانت نعمة.»
ويسخر بمرارة من الغرب، الذي احترف المجزرة، ونهب خيرات الشعوب، بعد ذبحها، حين يسمّي نفسه:( العالم الحر)، فأيّ عالم حر هذا؟!!
« إن على الشعوب أن تُنهَب وتُذبَح بصمت، يتنطّحون لمقاومة الإرهاب! إذ يعتبرون أنّ كلّ من قاومهم في سبيل حقه المشروع هو إرهابي، معادٍ للحضارة والحرية والتقدم». * تلك الأيام ج2
يسرد (اليوسف) صورتين متوازيتين:أولاهما لحياته الشخصية، وسط أسرته المشرّدة، وثانيتهما للعالم . فيستذكر أيام الجوع والبرد في بعلبك، وكيف غامر أبوه في المسير في قلب العاصفة الثلجية، للعثور على ما قد يُشعل ليدفأ الصغار الجياع.
و يسرد ارتحاله إلى دمشق، وشغفه بالمعرفة والبحث عن الحقيقة التي ماتزال تزوغ منه ،وربما استطاع الشغف بالحقيقة، أن يفرز في النفس قلقاً لا شفاء له ولا دواء، وهو قلق يهدف إلى إشباع الحنين للمقدس الأصلي، والاستجابة للشوق النازع إلى حيازة ما يندّ عن الحيازة .
بمحاذاة تلك الصورة، يسرد الصورة الثانية الموازية لمسار التاريخ المعاصر،وأحداثه العالمية الكبرى، في الفترة ما بين1948 و1975،وهي الفترة التي أشعلت الأحلام الوطنية والأممية في آنٍ معاً، تلك الأحلام التي انطفأت تحت وطأة الإنهزامات الكبرى إقليمياً وعالمياً. حيث يتوغّل الكتاب في الكثير من التفاصيل التي طالت الحياة الاجتماعية، والاقتصادية للفلسطينيين، في تلك الفترة التي كانت تنوس بين التفاؤل والإحباط، بتأثير من انتصارٍ هنا، وانكفاءٍ هناك، وهم يرتجلون خطوهم الاستشهادي، والنضالي على طريق فلسطينهم، وسط ظروف عربية وعالمية مضطربة، فيقف بموضوعية على ذلك الموَران، وبخاصة تلك المفارقة التي عاشها الشعب الفلسطيني، والتي تمثّلت بطموحات وأوهام تجاوزت ما كان لديه من طاقات.
في الجزء الثالث من سيرته يتحدّث اليوسف عن تجربته الكتابية بشيء من التفصيل، كما يتحدّث عن مثبّطات الكتابة وعوائقها، في هذا الطور التاريخي المتطرف في تمجيد المادة، وجعْلِها العنصر الأهم على سطح هذا الكوكب المسكين. فالكتّاب الحقيقيون في هذه الأيام، يعيشون منبوذين كأنهم في المنفى .
« ولكن لماذا أكتب، ما دامت الأمور قد بلغت إلى هذا المبلغ من الصفاقة والبؤس؟! إنّ لي جملة غايات من هذا الفعل، أوّلها نزعة الخلق ، والحاجة إلى البوح بفعل سامٍ، شديد العلوّ. كما أنه بودّي أن أكتشف الينابيع التي تنبع منها اللغة العربية، وحيويتها، وطاقتها، وذلك لأن ينابيع اللغة العربية هي ينابيع الروح نفسها .
ويرى أن الطور الراهن، الذي فار فيه النفط، ليس طور كتابة، ولا طور آداب .
كما يسرد في هذا الجزء حياته الخاصة، ولاسيما أسفاره في العالم، ويسرد الكثير من المواقف التي جابهته بسبب هويته الفلسطينية، ما يدلّ على أنّ إسرائيل والصهيونية هي روح الشر المنبث في العالم .
وهو مهموم بالكوارث المتفاقمة، التي تجري في هذه الدنيا، دون أيّ مسوّغ كاف من شأنه أن يسوّغ هذا الشر الآخذ في الإستفحال يوماً عن يوم، حتى يكاد المرء أن يعتقد بأن ما يحدث عياناً، هو شرّ من أجل الشر. ولهذا، لابدّ للعقل من صحوة.

الصوفية عند اليوسف
في هذا الجزء صفحات شديدة الثراء حول تجربته المعرفية، والتي ابتدأت منذ نزوعه المبكّر للقراءة ،وميله للأدب، وللشعر منه خاصّة ،ثمّ إبحاره بين لجج الفكر المتلاطمة قديماً وحديثاً، غرباً مادياً، وشرقاً روحانياً . وقد اكتشف الصوفية في أواخر الستينيات، فغاص عميقاً في الفكر التصوّفي.
« إن الإنسان حنين و لهفة، تندفع، وتطفر صوب الأعالي والنائيات، إنه شوق لاعجٌ، يتوجّه إلى مفقود حميم ، لا معنى للدنيا من دونه قط . ،و هذا اللوبان الملتاع ، الملهوف على المفقود، هو الوجد الصوفي» .
تجربته الصوفية تتناغم مع نزوعه للانعتاق من أسر جسدٍ، يحدّ من اندفاعه باتجاه اللا محدود، وصوب السرمدية.
« كلما توتّرتْ رغباتي، أو جمحتْ، تَلَهّبَ خيالي وتوثّب، فصار قوّة اجتياح لا تأبه بالعوائق والحواجز، وعندئذ، أرى الشفق الصوفيّ، وهو يلوّن كلّ شيء .
ويرى أن التفكير بالصوفية على هذا النحو، يجعل منها صنفاً من أصناف فقه النفس، التي تحدس، ولا تعرف، وهذا ما يقرّبها كثيراً من الأدب والفن . ويؤمن بحق الصوفيين في الاختلاف والمغايرة مع السائد، باتجاه عالم آخر يفتحه الكشف والرؤيا، وإن كان هذا الاختلاف ذا نتائج وخيمة .وله في هذا الجزء مواقف، ونظرات، تخلص إلى أن الشرق، هو من أنجب الفكر العميق، وأنّ الغرب بأعظم مفكريه، وفلاسفته، ما كان إلا مقلّداً وناسخاً لما تسرّب إليه من عرف الشرق . ويضرب أمثلة مثيرة على ذلك : عن هيغل، واسبينوزا وما مَتَحاهُ من فكر ابن عربي ، وأمثلة أخرى كثيرة، فيها من الإثارة بقدر ما فيها من الجدّة. ويرى أن الوعي هو الذي يوقظنا على بؤسنا وشقائنا، ويرى في العقل سرّاً يبحث عن الأسرار، وهو محدود، لارتطامه بأسوار الأسرار ,ثم يخلص في نهايات الجزء الثالث إلى أن المدينة بتمجيدها المال، و رفع شأن رموزه، وتهميشها للفنون الأصيلة، ومن ضمنها الأدب، قد انحطّت:
« إنّ المدينة، لا روح فيها، حين يكون أديبها الأصيل ، لا المزيّف مهجوراً منبوذاً » .
المرأة عند اليوسف
المرأة عند اليوسف هي: «نداء عميق، إن لم يكن أعمق النداءات قاطبة، وذلك لأنه يتدفّق من عالم المستورات،وحنين الرجل إلى المرأة هو نفسه حنينه إلى جنّة عدن المفقودة» .

أمل
وأمّا (أمل ) فهي المرأة التي تنبض في روحه، وتجسّد له الجمال، والصفاء، وبرهة الخلاص من يباس الحياة، فيضفي عليها من السجايا والصفات ما تراه عين روحه، حتى ليحسبها القارئ أنها مخلوق أثيريّ، غير متجسّد في كثافة أخلاط الجسد..وقد يختلط الأمر على القارئ وهو يرنو إلى وصف اليوسف لـ (أمل) بأنها ترميز لبرهة وجد صوفية، تومض، وتغيب، ويندر أن تتكرّر، وليست امرأة من لحم ودم، كما يصرّ، ويؤكّد .
تغدو الكتابة في(تلك الأيام) هي الخوف من الانتهاء، دافعها أن يصل الصوت لأبعد ما ينهيه الموت.
الكتابة هنا، تثير في القلب عواصف الذكريات، وتهيج فظائع الوقائع ،بسبب الصهاينة، الذين هم لعنة حلّت بالعالم ، والذين لا حياة لهم بلا جريمة، هؤلاء الذين أتوا مدجّجين بالأكاذيب والأسلحة، وموروث القهر، ليقهروا غيرهم ، وكانت فلسطين هي الضحية .
(تلك الأيام) سفر ابتهال حرقة الغريب عن دياره، وعن ذاته..وأرى أنّ ترجمة سفرٍ كهذا إلى لغات العالم، هي خطوة تختصر الكثير من الجهود لشرح حقيقة ما جرى ويجري ، ليس في فلسطين فحسب، وإنما في عالمنا الراهن . وهذا ما يجعل ترجمته واجباً إنسانياً ومعرفياً ووطنياً بامتياز.
غادة اليوسف

المزيد...
آخر الأخبار