بدعوة من رابطة الخريجين الجامعيين وجمعية العاديات قدمت الدكتورة سمر ديوب عميدة كلية الآداب في جامعة البعث محاضرة بعنوان شعرية الومضة بدأتها بتعريف الومضة فقالت:
تعدّ قصيدة الومضة نصاً شعرياً له أشكال مختلفة، يعبر عن روح العصر. وهي برقية رؤياوية تمثّل جوهر الشعرية من جهة، و النص المضاد من جهة أخرى؛ إذ تشتمل على الصورة الشعرية المعقدة، والجمل الموحية
جذور الومضة
وبينت المحاضرة أن للومضة جذوراً في التراثين العربي والعالمي، وقد عُرفت بتسميات مختلفة، ويعرّفها النقاد بأنها قصيدة قصيرة، مكثّفة، موحية، تترك أثراً يشبه الوميض في المتلقي، وتتميز بسماتها الأسلوبية كالتضاد، والمفارقة، والانزياح، وتمثل عالماً شعرياً غنائياً ودرامياً في آن، وتعدّ نصاً شعرياً، ونصاً مضاداً للشعرية في الوقت نفسه.
كما قسمت المحاضرة إلى ثلاثة مستويات :
-قصيدة الومضة: الدلالة والمصطلح والركائز
-قصيدة الومضة والنص المضاد
-قصيدة الومضة والشعرية
وبينت أن الذائقة العربية لم تعد تتقبل القصائد الطوال؛ ذلك أننا نسير في عصر السرعة، والتطور التقني، ولا aبد من تغيير الأدوات الفنية تبعاً لحال العصر السائدة، وقد أتت قصيدة الومضة؛ لتعيد للشعر جمهوره، ولتقدم نفسها على أنها شكل القصيدة القادم.
الومضة اقتصاد لغوي
وتضيف المحاضرة :إن الومضة قائمة على الاقتصاد اللغوي، والتكثيف، فتتشبّه بالبرق الخاطف الذي ينفذ بسرعة إلى ذائقة المتلقي، ويترك أثره فيه معتمداً على كثافة عالية.
تسميات عديدة
وقد عُرفت قصيدة الومضة بتسميات مختلفة، منها: النثيرة، والتوقيعة، واللمحة، واللافتة، والمنمنمة، والبرقية، والتلكس الشعري، وقصيدة المشهد، وقصيدة الخاطرة، وقصيدة الفكرة، والقصيدة الفلاشية، وغير ذلك من التسميات. والمصطلحات الأكثر تداولاً: الومضة، والتوقيعة.
سمات قصيدة الومضة
الفارق بين الومضة والقصيدة القصيرة اللغةُ الموظفة من جهة، والشكل الموظف من جهة أخرى.
وتومض الومضة من داخل النص بالبنية الداخلية، فتثير المتلقي من زاوية التأزم بقصد الإدهاش، فالمفارقة، فالإيماض الذي يترك أثراً يشبه التوقيع في نفس المتلقي.
الومضة إضاءة الفكرة بلغة مكثفة، وتقديمها بصورة موجزة معبرة، فهي قصيدة الصورة من جهة، وقصيدة الرؤيا من جهة أخرى؛ لارتباطها بالهم السياسي، والوجع الاجتماعي.
وثمة فرق بين قصيدة الومضة والقصيدة الومضة، فيحيل مصطلح قصيدة الومضة على وجود الومضة في القصيدة، أما مصطلح القصيدة الومضة فيعني أن القصيدة بأكملها ومضة. ولعل التسمية الثانية أقوى في الدلالة على حضور الومضة في القصيدة، وعلى عدّ هذه القصيدة قصيدة رؤيا، نقول أكثر مما تشتمل على مفردات، وتعبر عن رؤيا سوداوية في أغلب الأحيان.
وتبدو العلاقة بين الومضة والقصة القصيرة جداً علاقة استلاب لهوية كل طرف منهما على حساب الآخر من جهة التصنيف الأجناسي، فكلاهما يعتمد على آلية القص، واللعب اللغوي بوصفه عنصراً مهماً من عناصر الكتابة في النوعين معاً. كما يعتمد كلاهما على فتنة اللغة المجازية التي تجمع بين شعرية القص، والتكثيف، والإيماض.
لكن تتميز القصة القصيرة جداً من الومضة من جهة البناء التركيبي لكل منهما. فالقصة القصيرة جداً نوع سردي يميزه ما يجعل السرد سرداً، أما الومضة فيميزها ما يجعل الشعر شعراً. فثمة قصائد بنيت على السرد، ففيها مكان، وحدث، وشخصية، أما في قصيدة الومضة فتؤدي المفردات القليلة وظيفة في إشاعة جو توتر يوجز المعنى، ويجعله يمتلك قدرة كبيرة على الإشكال الدلالي.
كما أن مصطلح القصة القصيرة جداً يعني اجتزاء النص، أو قصه، لا اختزاله وتكثيفه، فقصر حجمها لا ينهض سبباً لعدّ القص ومضة مالم يتحقق شرط الومضة. فهل الومضة وليدة سلسلة تراثية مستمرة، أو أنها نوع أدبي مبتور عن التراث؟
الومضة بين التراثين العربي والعالمي
يعدُّ الشاعر عز الدين المناصرة أول من أطلق على القصيدة اسم توقيعة اشتقاقاً من فنّ التوقيعات في الأدب العربي القديم، وهو فن يعتمد على الإيجاز والبديهة، مرتبط بأدب الرسائل في الأدب العربي القديم، نشأ في صدر الإسلام، فثمة رسائل سياسية كانت تُرفع إلى الخليفة تتضمن تظلماً، أو شكوى فكان يوقّع بمثل، أو حكمة، أو آية كريمة، أو حديث شريف، أو بيت شعري، أو جملة من إنشائه. وهي جملة مكثفة مركزة، تتضمن الحلّ، أو التوجيه للحل، وتحمل طاقة إيحائية، وتتمثل فيها حوارية الخطابات .
وتصلح الإشارة السريعة للخلفاء، يدل لفظها القليل على المعنى الكثير، وينضوي خلف صياغتها الموجزة جمال أدبي، وصنعة مرهفة، فثمة حاجة تواصلية بين المرسِل الشاكي، والموقّع الخليفة، يظهر في التوقيع التلميح بدلاً من التصريح. وقد مالت العرب إلى التوقيعات؛ لإيجازها الشديد، وتأديتها المعاني بأقل الألفاظ ، ويختلف فن التوقيعات عن الومضة من جهة أن التوقيع يندرج في سياق يتمثل في التواصل بين المرسل والمرسَل إليه وموضع الرسالة، أما الومضة فلا ترتبط بمكونات سياقية إلى أن يفكّ المتلقي رموزها.
ركائز قصيدة الومضة وأنواعها
تلتزم قصيدة الومضة الكثافة والإيحاء، والنهاية المدهشة، والمفارقة، وتنبثق من موقف انفعالي، ولحظة مأزومة، وتبنى على صورة كلية واحدة، وعلى الوحدة العضوية
وتتسم الومضة بجملة سمات، وتنهض على جملة ركائز أهمها:
1-شعرية الرؤيا
2-الإيحاء والتكثيف
تغدو الومضة عالماً شعرياً ضيّق العبارة، متسع الرؤى، فتأتي العبارة موجزة في معنى عميق، وتقدِّم نظرة خاصة للواقع بتفرد وخصوصية، فيعالج المبدع الفكرة بطريقة مختلفة .
العتبة النصية والخاتمة المفارقة
تأتي نهاية الومضة مفارِقة، ومدهشة، وليس هذا الأمر جديداً، فقد اهتم البلاغيون العرب بخواتيم القصائد بوصفها آخر ما يصحب القارئ في النص.
وتؤدي الخاتمة المفاجئة وظيفة إدهاشية، وتجذب المتلقي حين تكسر أفق توقعه. وقد انحرف شعراء الومضة عن المألوف، وغيروا النسق عن النظام اللغوي السائد
أتت العتبة النصية حاملة معنى إزاحة الظلام بضوء يساعد على الرؤية؛ ذلك لأن واقعه محكوم بالظلام،
معمارية الومضة
للومضة أكثر من شكل شعري، فثمة نماذج تندرج في شعر التفعيلة، وثمة نماذج تندرج في قصيدة النثر، وهنالك قصيدة العمود الومضة مما يعني أن للومضة أكثر من شكل شعري، فهي أسلوب شعري متعدد الأشكال.
وتأتي كثير من الومضات مندرجة في شعر التفعيلة
النص المضاد
يمكن أن ننظر إلى الومضة على أنها تنطوي على حوارية أنواع، فتندرج في جنس الشعر، لكنها تفارقه؛ لتستعير من أنواع مختلفة أدبية وغير أدبية، فيغدو النص مضاداً لجنسه؛ لاشتماله على خصائص جنس آخر، فقد سمى محمد مطر ومضاته لافتات هارباً من تجنيس نصه، فغدا شعراً بنكهة نثرية، ولشوقي بغدادي ديوان «قصص شعرية قصيرة جداً» امتزج فيها جنسا الشعر والنثر. وتتوسل قصيدة الومضة القص الشعري، فهي تحرص على الإيقاع، واللغة الشعرية، والمجازات من جهة، والنسق الحكائي، والتوتر الدرامي، والحدث القصصي من جهة أخرى.
الومضة والخبر الإعلامي
تتضمن الومضة خبراً إعلامياً، لكنه يفارق دائرة الخبر الإعلامي، فيقدّم نفسه بصورة مختلفة بعلاقة حوارية بين الكلمة والصورة، فتفارق الكلمة وظيفتها الإعلامية؛ لتأخذ طابعاً إيحائياً.
ويهدف الخبر الإعلامي إلى إطلاع المتلقي على أحداث معينة، ويفيد المصطلح «الخبر الإعلامي» معنى النقل الموضوعي للمعلومة؛ للتأثير في المتلقي، وتكوين الومضة والمشهد المسرحي.
يتوزع مصطلح المشهد بين الدرامي والمسرحي، إنه وحدة تقسيم مسرحية. فقد استمدت الومضة من الرواية الحديثة أسلوب الخطف خلفاً، والمونولوج الداخلي، وغيره، كما استعارت من المسرح تعدد الأصوات، والحوار، والصراع، والقالب المسرحي في بعض الأحيان .
وتشرّع الومضة باب الحوار بين الأنواع، وأبرز ما يجعلها نصاً مضاداً أنها تعتمد على المشهد متكئة على مساحة لسانية صغيرة، فيتكثّف الحدث، وينتهي في لحظة توتر عالية، وتنتهي بمفارقة أسلوبية مدهشة.
شعرية التضاد
تُبنى قصيدة الومضة بناء ضدياً، وتعبر عن حال الشاعر المتأزّمة، ويغدو التضاد تضاد هموم وطنية، وإنسانية. إنه يسعى إلى بناء عالمه الخاص المقابل لعالم الآخرين؛ لأن ثمة علاقة تضاد تربطه بمن حوله.
تداخل مع فن السينما في توليف اللقطتين المتتابعتين، فقد بدأت اللقطة الأولى بالوصول إلى المنفى الأول، ولديه خف حنين واحد، فاسحاً المجال لإيحاءات متعددة للخفّ الواحد، ثم تأتي اللقطة الثانية، فيُسرَق منه الخفّان، فثمة بعد إيحائي مختزل بلقطة واحدة.
ويعرّف النقاد التوقيعة بأنها قصيدة قصيرة، تترك أثراً كالتوقيع في المتلقي، مكثّفة، إيحائية، قفلتها مدهشة؛ لذا يلتقي تعريف التوقيعة تعريفَ الومضة في البريق، والإدهاش، والأثر
وقد آثرنا استخدام مصطلح الومضة؛ لأنه أنسب لحال الوميض البارق، والأثر السريع الذي تتركه في المتلقي من جهة، ولأننا ننظر إليها على أنها برقية شعرية رؤياوية من جهة أخرى.
ويعني الكلام السابق أن قصيدة الومضة جنحت إلى القصر بسبب تغير طبيعة الحياة، وصارت تعبّر عن لحظة انفعالية تأملية محددة. ويعني حضورها على الساحة الأدبية تحوّل الشعر من الخطابية إلى الإيحاء، ومن الشعر الذي يقدَّم أمام الجمهور بهدف التوعية.
وتشكّل نهاية الومضة بؤرة انفجارية مدهشة تفارق نصّ الومضة الحافل بالإيحاء.
ميمونة العلي
المزيد...