يبين الدكتور جودت ابراهيم خلال محاضرته في فرع اتحاد الكتاب العرب التي تحدث فيها عن التناص في الشعر العربي الحديث ان آليّة التّناصّ الغالبة في الشعر تقوم على استلهام دلالة النص الشعري وتحويرها بما يتناسب ومقصدية الشاعر،و لقد تعدّت مقدرة الشاعر على تمثل الشعر الحديث وفقاً لرؤيته الشعرية، ولم تقتصر على الشعر العربي القديم،وبذلك تقوم علاقة النص الشّعري مع النص الغائب على أساس الامتصاص. يقول الشّاعر نزار قبّاني في قصيدة /من يوميات شِقة مفروشة/: «بلادٌ..بدون بلادٍ فأينَ مكانُ القصيدةِ بين الحصارِ وبينَ الحصارْ؟ كأنّ الكتابة في مدن الملحِ.. فعل انتحارْ..» فقد استدعى الشاعر نزار هنا علامة لسانيّة دالّة على عنوان الرواية المشهورة لعبد الرّحمن منيف (مدن الملح) مستخدماً إياها لغةً ودلالةً للتعبير عما يريد من نصّه الشّعريّ.
تناص بين قصيدتي نزار قباني وعمر ابو ريشة
ويوضح لنا المحاضر مواقع التناص بين بعض نتاجات الشاعرين عمر أبو ريشة ونزار قباني مستشهدا بقصيدة /غرناطة/ التي كتبها نزار قباني في بداية الستينات:منها «عينانِ سوداوانِ..في حجَريهما تتوالدُ الأبعادُ من أبعادِ.. هـل أنـت إسبانيّةٌ؟ ساءَلتهـا قالت: وفي غرناطةٍ ميلاديْ ودمشقُ أينَ تكونُ؟ قلتُ تريّنها في شعركِ المنساب نهر سوادِ قالتْ:»هنا الحمراءُ مجدُ جدودنا فاقرأ على جدرانها أمجادي» !؟ ومسحتُ جرحاً نازفاً ومسحتُ جرحاً ثانياً بفؤاديْ.
هذه القصيدة موضوعها مستوحى تماماً من قصيدة /في طائرة/ للشاعر عمر أبو ريشة التي كتبها في بداية الخمسينات ويقول فيها: فتبسمتُ لها فابتسمتْ وأجالتْ فيَّ ألحاظاً كسالى قلتُ يا حسناء من أنتِ ومِنْ أيّ دوحٍ أفرع الغصنُ وطالا؟ وأجابت: أنا من «أندلسٍ» جنّة الدنيا سهولاً وجبالا هؤلاء الصِّيدُ قومي فانتسبْ إنْ تجد أكرمَ من قومي رجالا، ألمحُ الدهرَ على ذِكرِهمْ يطوي جناحيه جلالا أطرقَ القلبُ، وغامت أعيُني برُواها، وتجاهلتُ السؤالا!
وقد استلهم نزار هذا النصّ الذي يتحدث عن لقاء الشّاعر عمر أبو ريشة بفتاةٍ أندلسيّة وأعاد إنتاجه بشكلٍ أقرب إلى المحاكاة، مع محاولةٍ منه للتميّز الأسلوبيّ عن النصّ الأول.
التناص بين الياس أبو شبكة وإيليا أبو ماضي
ويضيف الدكتور الابراهيم مغنيا موضوعه بالحديث عن التناص بين الشاعرين الياس أبو شبكة وإيليا أبو ماضي فيقول: إننا لنجد صعوبة بادئ الأمر في كشف خيوط التداخل النصّي بين بعض نتاجات الشاعرين إلياس أبو شبكة وإيليا وأبو ماضي وما فيهما من تفاعلات نصيّة، غير أنّ شـعورنا بهذا الحس المأسـاوي الحزين الذي يسري في ثنايا نتاجات الشاعرين سرعان ما يسر لنا الأمر في كشف تلك الخيوط، ذلك أنّ القلب و ما ينطوي عليه من جروح و آلام كفيل بإلهام الشاعر. وكانت نقطة التقاطع المركزية بينهما تتمثل في عدِّ الطبيعة مصدرَ كلِّ جمال في الكون وروعة وإبداع فيه، وهي شاهدة على عظمة الخالق ينعكس سحرها و إشراقها على كل مخلوقاته، أي أن التناص يقع في عناق الطبيعة و الالتحام بها. ومن الواضح ان الشاعر إلياس أبو شبكة قرأ نتاج بعض سالفيه ومعاصريه على حدٍّ سـواء من رواد الشعر وأعلامه النابهين
تناص السياب مع معاصريه
يبين المحاضر أن الشاعر بدر شاكر السياب تأثر بالشعراء المعاصرين في الغرب كما تأثر أيضاً بالشعراء العرب ومنهم جبران خليل جبران، يقول السيَّاب في قصيدة (يا غربة الروح): الحبُّ ليس انسحاقاً في رحى الجسد .
يُذكّرنا هذا البيت بالشاعر جبران خليل جبران الذي كان يركّز على الجانب الروحي في الإنسان أكثر من الجانب المادي، ويدعوه إلى تلبية احتياجات روحه أولاً، فيقول: وَالحُبُّ إِن قادَتِ الأَجسامُ مَوكِبَهُ إِلى فِراش مِنَ اللذاتِ يَنتَحـرُ وَالحُبّ في الرُّوحِ لا في الجسم نَعرفُهُ كَالخَمرِ لِلوَحي لا لِلسّكر تنعَصرُ.
وهنا يمتصُّ السيَّاب هذين البيتين فيصهرهما ويذيبهما ثم يُعيد صياغتهما فيُنتج بيتاً جديداً يناسب مقاصده، مع بقاء معناه رديفاً لمعنى بيتي جبران.
تناص بين السياب مع أحمد شوقي
كما يوضح الدكتور جودت ابراهيم مواقع تناص السيَّاب مع الشاعر أحمد شوقي بقوله في قصيدة في يوم فلسطين: اليومَ يحطمُ كلُّ شعبٍ ثائرٍ سودَ القيودِ بضحكةِ استهزاءِ ويدٍ يفرُّ البغيُّ مِن هزاتِها حمراءَ ضرَّجها دمُ الشهداءِ, فهذان البيتان مُقتبسان من بيت شوقي: وَلِلحُرِّيَّةِ الحَمراءِ بـابٌ بِكُلِّ يَدٍ مُضَرَّجَـةٍ يُدَقُّ , فالسيَّاب اجتر ثلاث علامات لسانية من بيت شوقي وهي ( يد، حمراء، مضرّجة) فأجرى تغييرات طفيفة لم تؤثر على الدلالة أو المعنى فهذه اليد المصبوغة بدماء الشهداء عند شوقي هي التي ستفتح باب الحريَّة، وكذلك عند السيَّاب هي التي ستحطّم القيود وتطرد الأعداء، فنص السيَّاب لم يخلق شعريّة جديدة خارج حدود شعرية نص شوقي.
وتناص بين قاسم حداد ومعاصريه
كما يتطرق المحاضر للعلاقة التناصية بين الشاعر قاسم حداد مع معاصريه فيقول: نجد أنّ الشاعر قاسم حدّاد قد تأثر بأعلام الشعر من معاصريه مثل بدر شاكر السيّاب, ومحمود درويش, و أدونيس، ونزار قباني, ومن ذلك قوله: الحب لا ينفع حين يحقد الإنسان تعلّموا الحقد ولو للحظة لتنقذوا الأوطان
فكل ما يقوله الكتاب خرافة إن بقي الإنسان في التراب يمتصّ فيه دلالة قول نزار قباني: يا ربَّنا نرفضُ بعد اليوم أنْ نكونَ طيبين فالطيّبون كلُّهم أنصافُ ميتين هم سرقوا بلادنا هم قتلوا أولادنا فاسمح لنا, يا ربَّنا نكون قاتلين.
فنصّا الشاعرين يحملان الدلالة نفسها فكلاهما يسخر من فهم الناس الخاطئ للدين، إذ لا يدعو الدين إلى الخنوع والاستسلام وتضييع الحقوق, فالطيبة والخير والحب لا ينفعان مع العدو الذي يحتل الأرض ويقتل أبناءها, ولا ينفع إن بقي الإنسان يعيش مظلوماً ذليلاً. وكذلك يمتصّ دلالة قوله: حملت شعري على ظهري فأتعبني ماذا من الشعر يبقى حين ترتاح.فيقول: جربت جميع كتابات العالم, لا يجدي حرف لا يتعب لا يحمله كتف مجهد . فالشاعران يعرفان مدى المسؤولية التي يحملها الشاعر, فالكلمة مسؤولية, وعلى الشاعر أن يعي أنه لا يمكن له الجمع بين الراحة والشعر وإلاّ فلا معنى للشعر ولا جدوى منه.
والشاعر محمد الفيتوري أيضا
ويختم الدكتور جودت حديثه عن التناص في شعر محمد الفيتوري فيقول: لم تقتصر مقدرة الشاعر محمّد الفيتوري على تمثـّل الشعر العربي القديم, بل تعدّت ذلك إلى تمثـّل مثيله الحديث. ومعظم تناص الفيتوري كان مع النصّ الشعري الحديث. فقد استلهم الشاعر بعض آثار الشعراء المعاصرين ولاسيما أبو القاسم الشّابي الذي جعل إرادة الشـّعب فوق سلطة القدر يقول: إذا الشـّعبُ يوماً أراد الحياة فلا بدَّ أن يستجيبَ القدر ولا بـدَّ للـّيـل أن ينجلي ولا بـدَّ للقيد أن ينكسر يمتصّ الفيتوري دلالة هذين البيتين بشكل جيـّد ويعيد إنتاجهما من جديد يقول: وطأطأ القدرُ الجبـّارُ هامته وخرّ فوق ثراه الحرِّ إيمانا ناداه يا أيـّها المغرورُ قد وجبت إرادة الشّعب فاخلع تاجك الآنا .
المحررة