يُمثّلُ العنوان قي أي نصّ أدبي ـــ أيا يكن الجنس الأدبي الذي ينتمي إليه ـــ المنارة التي تشعُّ بأنوارها على ما يأتي تحت امتداد مساحاتها لما يمثله العنوان من حمولات دلالية تدفع القارىء إلى إمكانية تخيل المناخ العام للنص ، فالعنوان مفتاح الولوج إلى النص الشعري ، وهو بوّابة التغلغل إلى عالم النص الذي يشير إليه العنوان بالتصريح أو التلميح ، وفي قصيدة الشاعر: محمود درويش الموسومة بـ : (مأساة النرجس ملهاة الفضة) يبدو العنوان محفّزًا ذهن المتلقي في تخيل الفضاء الشعري الذي يبدو إدهاشيّاً في علاقاته بما فيه من تضاد يجمع بين نسقي التركيبين الإضافيين اللذين شكّلا البنية الرئيسة للعنوان عبر تمازج وحّد بين الأضداد والضد يعرف بالضد ، وكما قال الشاعر قديما :
ضدّانِ لمّا اسْتُجْمِعا حسُنا والضّدُّ يُظْهِرُ حسْنَهُ الضّدُّ
وفي نسقي العنوان في قصيدة درويش ذات النفس الملحمي نجد الشاعر يلجأ إلى الجمع بين المتناقضات التي تبعث على التساؤل وتستثير الذهن للتفكير عن تلك الرابطة التي تجمع بين هذه العوالم من حيث اللغة ، ومن حيث مدلولات العناصر المكونة لها والدالة عليها ، فقد جاء التركيب الاول تركيبا إضافيا مع النرجس ، وهو من حيث الحقل الدلالي ينتمي إلى حقل النبات فيما التركيب الثاني جاء مقترنا بالفضة ، وهي تنتمي إلى الحقل الدلالي الخاص بالمعادن الثمينة والفضة تأتي من حيث القيمة بعد الذهب ، فيما تشير لفظتا : مأساة وملهاة إلى نمطين من أنماط الكتابة المسرحية اللذين يمثلان وجهي الحياة المتناقضة بين الحزن والفرح ، وتعرف المأساة حسب معجم المصطلحات بأنها قصيدة مسرحية وضع قواعدها أرسطو في كتابه فن الشعر وهي التي تتطور فيها الأحداث جدية وكاملة مستمدة من التاريخ او من الأساطير على أن تكون شخصياتها من طبقة سامية وغرضها إثارة الخوف أو العطف في نفوس الجمهور المشاهد أما الملهاة فهي مسرحية أقل جدية من المأساة وشخوصها من الطبقة المتواضعة وتنتهي نهاية سعيدة وتعتمد على المفارقات والمفاجآت التي تكشف عن طبائع الناس وعادات المجتمع بطريقة ساخرة كما أشار إليهما أرسطو فالملهاة تحاكي الناس لا في كل نقيضة ولكن في الجانب الهزلي الذي هو قسيم القبيح وأما المأساة فهي محاكاة فعل نبيل تام لها طول معلوم بلغة مزودة بألوان من التزيين وفقا لاختلاف الأجزاء وتتم بواسطة أشخاص وهي تثير الرحمة والخوف فتؤدي إلى التطهير من هذه الانفعالات جميعها كما يبدو العنوان حاملا تضاده من حيث الدلالة على ما تشير إليه دلالة كل من طرفي نبات النرجس الذي يشير إلى الحركة بكونه عنصراً حيا يوحي بإفادة دلالته على الحياة في مقولته النهائية فيما يدل الفضة على الثبات كونه يعني الجمود بمعنى الموت في مقولته الأخيرة ، وكأنما الشاعر أراد أن يقدم قصيدته الملحمة وفق هذا البعد لتكون لوحة للحياة بما تحمله من تناقض وصراع بين الموت والحياة من خلال بعض العناصر المكونة للطبيعة التي تتألف من عناصر الماء والهواء والتراب والنار وإمعان النظر فيما وراء الألفاظ يجعل القارىء يستشف حضور هذه العناصر وفق رؤيا السبب والمسبب أو الحاجة والضرورة فالنرجس النبات يحتاج إلى التراب والماء وفق علاقة السببية ، والفضة يستدعي النار والهواء بحكم الضرورة والانتقال من حالة إلى حالة ، فالمعادن تصهر بالنار وتجفف بالهواء ، وهكذا يبدو العنوان مشكاة الشاعر التي ألقت بإشعاعاتها على فضاء النص الذي أراد الشاعر له أن يكون أحد أبرز العناصر الملحمية في هذه القصيدة ، وهو ما يتأكد من خلال دلالة حضور الزمن الذي يستهل الشاعر فيه القصيدة ، وهو الزمن الماضي من خلال الفعل عادوا والزمن الماضي حدث انقضى وجوديا ، وما ختم به القصيدة بالفعل : يرجعون الذي يشير إلى الزمن الحاضر والفعل المضارع يفيد استمرار الحدث في المستقبل ، وهو ما حاول الشاعر أن يؤكده من خلال الربط بين الزمن الماضي بداية القصيدة والمضارع في ختامها تأكيدا منه على حياة القضية التي يؤمن بعدالتها واستمرار المقاومة من أجل استعادة ذلك الحق عبر تعاقب النضال المستمر جيلاً بعد جيل .
د. وليد العرفي
المزيد...