السّـــــــــــُور…

هناكَ في البعيد – القريب كان يتشامخ، بقامته القاسية يشرئبّ مُتحدّياً كلّ مشاعر البراءة، المنسوجةِ ضفائرُها من سنابل القمح، وعُروق الزيتون. لا أحد من سكان الحيّ يشعر بلونٍ منْ ألوان الفرح؛ نظراتهم تفضح ما يعتمل بِصدورهم؛ لكنْ ماذا تنفع النّظرة المملوءة بالخواء؟ الرّصاصة إنْ لمْ تنطلق منْ مَكمنِها، يبقى فعلها الفاعل عاجزاً عنْ إدراك الحقيقة.. ماذا ينفع الصّمت بزمن الفخاخ والرّصاص والتحدّي؟ قال (سعيد) في سِرّه، لكنْ بصوت جُوّانِيّ عالٍ: «تلك الحمامة البيضاء تحلّق عالياً، ثمّ تحطّ على قامة السّور، أليس فعلُها هذا نوعاً منْ تحدّي التشامخ ذاته»؟ أحد الواقفين قربه، قرأ كلَّ ذلك بِبؤبؤي صوته، قال:
– لكنّها كائنٌ ضعيفٌ لا يقوَى على …
قاطعَه «سعيد»:
– ألمْ يقلْ شاعرٌ عربي: «لا تَحقِرنَّ صغيراً في مُخَاصَمَةٍ ..»؟
عينا «سعيد» كانتا تراقبانِ اللعبة الذكيّة؛ حمامة بيضاء تسبح بِأجواء الفضاء، ثمّ تعود لتتشامخ فوق هذا السّور القاسِي، بعينيها الصّغيرتين تتأمّل وُجوهاً عبّدها إسفلتُ الوَجع.. الحمامة نَفَضَتْ ريشَها، لم يتساقط منه ثلجُ اللونِ الأبيض، منْ قلبها الوادِع،خرجت آهاتٌ كثيرةٌ مُزركشة:
«هل باستطاعتي أنْ أقدّمَ شيئاً لهذه العيون المُكتحِلة بلونِ القهر، سِوى الأمل»؟!
سمع السّور كثيراً منْ آهاتهم، تشامخَ مَزهوّاً، مُعْتدّاً بحجارته الصمّاء! منْ ذُعرٍ وأسىً طارَتِ الحَمامة… بِبرهةٍ ما، خافت منْ هذا الفضاء المُسَوَّر، قال بصدره باكياً: «كيف حدث ذلك؟ يومَها عقلي، لم يكن معي؛ كنتُ بعوضةً بِطنينٍ أجوف؛ وأولادي، وأمّهم، والفرح الذي كان غامِراً؟! «فاطمة» المسكينة عندما تأتي لزيارتي، تتماسك عنْ ذرف الدموع لأجلي، تقول: «ما زال المحامي الشهير يعدّ دفاعه، دفعنا له قيمة الأتعاب سلفاً، الصّبرُ مفتاحُ الفَرَج! وأقول لنفسي: (أيّ محامٍ فذّ، هذا الذي سيعفيني منْ جريمتي النّكراء؟ نعمْ قتلتُه وأعترف؛ «محمود البدروسي» رجل طيّب، لكنْ كيف انتهى خلافنا على شبرٍ من الأرض إلى قتله؟ يومها طرحتُهُ بذات الشّبر المُتنازَع عليه، بالفأس عالجْتُ رأسه، بدقائق معدودات، انتهى كلّ شيء، مذعوراً هربتُ منْ هول الجريمة، لكنّ كلبه الأسود، عَضّني خَلْفاً، قبضوا عليَّ مُتلبّساً بالجريمة، ها هو ضميري يعذّبني، منْ سبع السّنوات يعذّبني)!
الحمامةُ والسُّور «صديقان بلا صداقة»، هي تتحدّاه، وهو يتشامخ، ذلاً أو كرامة.
أسئلة شتّى، تزوبعُ بفضاءِ النفس، بالفضاءِ المُسَوَّر، بفضاء الفضاء، فأينَ الإصغاء، وأينَ الإفضاء؟ الأسئلة تتشامخ، تصل هامةَ السّور، ترتدّ لِلصّدور غَصَّاتٍ قاتلات! الغصّة سؤالٌ ذو شوكةٍ حادّة، تنغرسُ بِلحم الذاكرة، تثقبُها، من الذاكرةِ يخرجُ صديدٌ مُرُّ المذاق.
السّور يتشامخ، كشجرة حُورٍ باسقة، الحمامة تتشامخ، تسابق الرّيح، تمتطي صهواتِها! عيونٌ غفيرةٌ ترمقُ اللعبة الذكيّة، ملايينُ الأكفّ الحُرَّة تصفّق، مَنْ منكم أيّها البشرُ الأسْوياء، يستطيع مسابقة الرّيح، واللعب بِمضمار الفضاء؟ هي لعبة ذكيّة لا يُتقنها إلّا الأذكياء، أمَّا الأغبياء!! قُرْبَ حجارة السّور، قال سجينٌ لجاره:
– السّور عالٍ، لكنَّ حزنَنَا أعْلى منه؛ متى الخلاص، وإِخلاءُ السّبيل؟
– ألمْ تُقسمْ بأنّك بريء؟
– شهِدوا عليّ بأنّني القاتل؛ على شهادة الزّور؛ أخذوا نقوداً؛ كانوا ثلاثة، بِحَارتِنا عُرِفُوا بِضعفِ الذمّة، كيف أبرّرُ موقفي؟ متى تنقشع الغمّة، والقاتل الحقيقيّ، ما فتئ يسرَح ويمرَح؟!
– مَنْ صَبرَ ظفر، ما بعدَ الضّيق إلّا!
السماء عالية مُحبّبة، الجبال عالية مُحبّبة، الحمامات عاليات مُحبّبات، وأنتَ أيّها السّور العالِي؟! تالله، كيف تقوَى حجارتُك على حبسِ الآهات؟ ألم تسمع تأوّهات الأطفال، وقد حَرمْتَهم منْ أُبوّةِ الآباء، وأمومةِ الأمهات؟ ماذا تقول الأقلامُ لطفلٍ جاء يزورُ والدَه، فوجد سوراً مُتشامخاً، يتحدّى براءة الطفولة بِصدره! بِقلبه لحظتئذٍ تشامخ سُورٌ من الألم، اصفرّت أوراقٌ خُضْرٌ، أثمرَ الحزنُ، بين الطفل والشّمس اللحظة سورٌ من العتمة! منْ يديه البَضّتِين، ضاعت كلُّ الأصابع، خريطة العالم تصاغرت، ليكون السُّور هو الجهاتِ الأربع، بل الأرضَ والفضاءَ! تحسّسَ قلبه، وجدَه سفينة مَهتوكة، دَهَمَتْها أمواج عاتية، جعلتها لقمة سائغة لِمُلوحةِ البحر، بالملح والصّدأ والضّياع، كانت مُسوَّرَة.
كلّما تشامخَ السّور، تشامخَتِ الحمامة؛ سعادتُها الآسِرَة، بِانطلاقتها الخالدة فوق كلّ الأسوار؛ تمتمَتِ، وجناحاها يُصفِّقان بأجواء الفضاء:
(غريبٌ أمرُك أيّها الإنسان؛ كيف تسمح لِسورٍ أصمّ، أنْ يسلبك انطلاقتك نحو الضّياء؟ ألستَ معي، بأنَّ حِجارة هذا السّور وغيره منْ حجارةِ الأسوار، تكون حجارة مباركة، من صَدف، ولؤلؤ، ومرجان.

وجيه حسن

المزيد...
آخر الأخبار