إن النقد الأدبي إنشاء عن إنشاء ، وإنشاء عن الأدب.وفق ماجاء عن التوحيدي وكذلك عن رينيه بلاك .
والفرق كبير بين القراءة التذوّقيّة والقراءة النقدية .فالنقد يُبنى وفق مقاييس نقدية مسبقة،ومن الاجحاف تصنيف كل قراءة في خانة النقد، لأنّ النقد هو علم ومنطق وبحث موضوعي، وقوننة، ومقدّمات محدّدة تستدعي نتائج محدّدة! فالنقد عمل يتم بمنهجية واضحة، وانضباط متقن إلى فهم المنجز الإبداعي، وإلى تقويمه وتقييمه بهدف إغنائه وإثرائه، بمنأى عن المدح الأجوف، وسكب السجايا الخارقة لنصوص هزيلة، أو الهجاء الأرعن، الذي يمارس اغتيالاً أدبياً لروح الكاتب قبل نصّه .
وعلى الغالب هي قراءات، لا تعدو أن تكون إضاءة، أو تعبيراً عن الانطباع الوجداني، والتحريض الجمالي، الذي أسبغه النص الإبداعي – من شعر، ورواية- على روحه، من خلال رؤية ذاتية، لها –ظرفياً- ما يبرّرها، ولا أجد هنا مجالاً للخوض في هذه المبررات . وعليه أن يعترف، أنّ الكتابة بهذه الطريقة ليست امتيازاً، ولا تكشف بالضرورة عن رؤية مختلفة، أو تجترح منهجاً، أو تتبنّى وعياً أكثر نفاذاً، كما قد يُتَوَهّم، ومن المؤكّد أنّني أتقاطع، وأتوافق، وأختلف، مع الكثيرين والكثيرات – وأحسب أنّ هذا حقّ مشروع للمتلقي، وأنّ هذه المشروعية مُستمدَّة من حقّه في التعبير عمّا يراه جميلاً، وإنسانياً، لأنّ كلّ إنسان على وجه الأرض، هو، وبرغم التشابه الكبير بينه وبين أخوته من البشر، فإنه يرى، ويسمع، ويعي، ويتذوّق الجمال، بطريقة تخصّه وحده، وكما يتلقّى في عين ذاته، ووجدانه الخاص، فكلّ كائن في هذا الوجود بالنظر لتجربته الشخصية، وبحسب أغوار هواجسه، ورغباته، هو نسيج ذاته، وهذا ما يهب الحياة ألوانها العميقة، والمشرقة، وتنوّعَها الثرّ، البديع . وهذا بالتالي يمنح النص أكثر من معنى، وأكثر من تأويل، وأكثر من هوية .
بالقراءات المتعدّدة يمكن للنص أن يُخصّب إلى عدّة نصوص, بمعنى أنّ القراءات تتباين تبعاً لاختلاف الحساسية، ومواقع الرؤية، وأنّ كلّ قارىء يقرأ بطريقته الخاصّة، المختلفة قليلاً، أو كثيراً عن غيره، وذلك لأنّ النص- أيّ نصّ – يُخاطب الإنسان في سيرورته التاريخية، هذا الإنسان الذي يتحرّك ويتقدّم في أفق غير محدود، خلافاً لبقية الكائنات، وبالتالي، فإنّ الذائقة، ومفهوم الجمال وبالتالي القراءة تتغيّر بتغيّره، عبر حركة دائمة التحوّل، مع التأكيد على مُشتَرَكات عامّة، تحكم، وتُشَكّل الحساسية الإبداعية : إنتاجاً وتلقّياً، في مختلف مجالات التعبير والإنتاج الثقافي، على مدى العصور .
بالرغم مما سبق فإنّي أعود وأؤكّد أنّ النقد الأدبي ليس مجرّد تذوّق للنصّ، ولو كان كذلك لما عرفنا شيئاً عن تيارات ومناهج، ومذاهب متنوّعة، ومتعدّدة، شغلتْ الباحثين منذ القديم، ولا تزال تشغلهم حتى الآن، وتشكّل مساحات خلافية بينهم، تتسع وتضيق، تتباعد وتتقارب، تتفارق وتتقاطع، وكلّها ترضخ لقانون التطوّر الصاعد نحو الأفضل بما يتناسب مع تطوّر وتغيّر التفكير الإنساني.
مع الاحترام لكلّ المدارس النقدية، التي جاءت نتيجةً لمعاناة وجهود كبيرة، والتي اشتغل فيها النقاد والباحثون من أجل وضع معايير نقدية بنيتْ على دراية بقوانين الكتابة، تُمكّن من سبر أعماق النصوص، واكتشاف عوالمها، ومعانيها، ودلالاتها، إلاّ أنّ التذوّق لا يعني عدم احترامها، حتى ولو لم يكن لها وصاية على أحد، خاصّة وإنّ النقد-أيّاً كان مذهبه فهو في النهاية ممارسة شخصية، فما بالك بالأذواق ؟ فالذائقة ميزة فردية، ولا تُفرَض على أحد .
أقول هذا بعد أن عجّتْ ساحة «النقد» بالنقّاد.!!الذين طوّبوا أنفسهم على أنهم نقّاداً .وازدحمت المنابر والصفحات بأصحاب المآرب.
وبقدر ما تعددت أساليب الخطاب النقدي ، تجريباً، واجتهاداً، وتمثّلاً واستيعاباً للمناهج النقدية، والتزاماً ، أو خروجاً عن اتجاهات ومدارس هبّت رياحها من ثقافات شتّى، غير أن النصوص النقدية التي تخدم الإبداع نادرة ندرة الدرر بين الدّمن .وذلك لجدواها ، إن على النص المنقود ، أو من حيث هي ذاتها نص إبداعي رفيع، كنقديات الراحل يوسف سامي اليوسف والدكتور نضال الصالح والأستاذ نذير جعفر ..ويوسف المصطفى .
إن معظم ما يُكتَب من نقد أو تُعتلى باسمه منتديات القراءات الدارجة بهدف تضخيم الذات لابهدف تعميم الثقافة بالنظر للقائمين عليها يدعو إلى وقفة حازمة، خصوصاً أن جلّ من يرتكبونه ينحون أحد منحيين: فإما أنهم يقاربون النصوص بأدوات نقدية أكاديمية ، تشريحية ، كلٌّ بحسب المنهج الذي يلتزم به ، والمدرسة التي توافق هواه،بحجّة أنه يضمن طرح الاسئلة المناسبة على النصوص الإبداعية بأسلوب علمي رصين وصحيح، فيتحول النص النقدي إلى جملة من الطلاسم والمبهمات المتعالية على فهم وإدراك الكثيرين، بمن فيهم قامات أدبية سامقة، فلا تترك في القارىء غير الإحساس بالنقص المعرفي والتشتت ، أو ينحو منحى من لايملك الأدوات النقدية الأولية ولا حتى الذائقة، التي هي برأيي المعيار الأول لكل قيمة…
وأمّا ثالثة الأثافي فهي حين يلجأ بعض سرّاق غوغل لتطويب انفسهم نقادا على الصفحات والمنابر بهدف إدعاء مكانة ثقافية و أدبية مبنية على السرقة واللصوصية ..وكم تكاثروا وتكاثرن كالفطور السامة هذه الأيام .وعليه ..فإن استغلال الصفحات والمنابر تحت مسمّى النقد لتصنيع الظواهر الأدبية والفنية والأسماء ، وإسباغ صفات الإبداع والمبدعين عليها، والمغالاة في امتداح نصوص لاترقى إلى مستوى الإبداع ، أو بالعكس، حين يتّجه للتجريح الذي يتجاوز النص إلى شخص الكاتب .قبل ان تلقي بنفسك وعلى الملأ أو بين ثلّة من المصفقين وأنت تختار نصوصاً لأدباء وأسماء ماتزال تتلمس دربها بتلعثم لهدف يخدمك شخصياً على غير صعيد ، أو لأسماء لامعة لتكسب الحظوة مستغلاً نرجسية يُبتلى بها كل أديب ، تذَكّر أن نهر الزمن الصافي سيجرف يوماً كل غثاء السيل .
غادة اليوسف
المزيد...