الثقافة سلوك اجتماعيّ ,ومعيار وجود وحياة في المجتمعات البشريّة ، وتعدّ مفهوماً مركزيّاً في (الأنثروبولوجيا – علم الإنسان) يشمل بعضَ جوانب السلوك الإنسانيّ والممارسات الاجتماعيّة ،وهي مجموعة العادات والتقاليد والقيم للمجتمع والثقافة مجموع المعرفة المكتسبة بمرور الوقت . وبهذا المعنى فإن التعدّدية الثقافيّة تقدّر التعايش السلميّ والاحترام المتبادل بين الثقافات المختلفة.بهذا التعريف للثقافة بدأ الأديب محمود نقشو كلامه في محاضرة بعنوان الثقافة الثالثة في فرع اتحاد الكتاب العرب وقد دعا في هذه المحاضرة لضرورة الدمج بين الثقافة العلمية والأدبية بثقافة جديدة سماها الثقافة الثالثة .
الثقافة الأولى والثانية
أسهب المحاضر بتعريف مفهوم الثقافة الأولى والثانية فبين أنه في الوقت الذي بدأت معه المعارف والعلوم الإنسانيّة والتجريبيّة الجريان باتجاه متواز ، كان النّاس منقسمين في الاستهلاك تبعاً لهذا الجريان المتوازي . فئة داعمة ومستهلكة ومنتجة للثقافة الفنيّة والأدبيّة وهي (الثقافة الأولى) ، وأخرى داعمة ومستهلكة ومنتجة للثقافة العلميّة المشبعة بالتقريريّة والجمود وهي (الثقافة الثانية) ، ولا يوجد اجتماع أو تداخل بينهما ، حتى صدور كتاب الروائيّ وعالم الفيزياء الإنكليزيّ (تشارلز سنو) (ثقافتان) عام 1959 ليوحّد بين الاتجاهين بمفهوم واحد أسماه (الثقافة الثالثة) . وجاء بهذا المفهوم للتقريب بين ممثّلي كلا الاتجاهين الأدبيّ والعلميّ .
هل يتحول الفنان إلى فيزيائي؟
ويوضح المحاضر أن هذا الرأي ليس دعوة لتحول الفنان إلى فيزيائي وإنّما اشتغال تلك القواعد الفنيّة والأدبيّة والعلميّة – أي النخب المنتجة من كلا الطرفين – على معرفة كافية بالأنماط الثقافيّة العلميّة والأدبيّة معاً . وبالتالي التأصيل لهذين الاتجاهين وعدم تشتّتهما أو تنكر ونفي أحدهما للآخر في تشكيلهما للحضارة الإنسانيّة ، لما لهذه (الثقافة الثالثة) من دور في مجتمع القرن الحادي والعشرين . وهي فترة يعيش فيها العالم تحوّلات مهولة في مجالات علميّة وتكنولوجيّة لا حصر لها ، كـ (النانو تكنلوجي) ، و(البيولوجيا الجزيئيّة) ، و(الهندسة الوراثيّة) ، و(الذكاء الاصطناعيّ) و(الحياة الاصطناعيّة).. الخ .
الجمع بين الثقافتين
ويعدد المحاضر نقشو العديد من الأعمال التي جمعت بين الثقافتين إذ صدرت مجموعة من الأعمال الروائيّة والسينمائيّة والبحوث العلميّة التي اعتمدت لغة أدبيّة عالية وحقائق علميّة رصينة لا يمكن نكران مستوى التداخل فيها ، وليس آخرها كتاب (الكون الأنيق) للفيزيائيّ الأمريكيّ (برايان غرين) ، الكتاب الفريد من نوعه في أمور عدّة ، أوّلها عرضه آخر ما توصّلت إليه علوم الفيزياء والكون وأحدث أخبار علمائها ، وثانيها أنّه مكتوب بلغة رصينة وأدبيّة رفيعة وأسلوب رائع ، أما ثالثها فهو أنّ (غرين) يخاطب في الكتاب «النادر» كلّ الناس طلّاباً وعلماء ومثقّفين وعاديين .
مبرّرات منطقيّة
والجدير بالذكر أنّ هذه (الثقافة الثالثة) ومفكّريها لم تعد نوعاً من ترف النخبة الثقافيّة التقليديّة وسمر الصالونات وترفّع الأبراج العاجيّة , بل صارت ضرورة وجود , وضرورة عيش بالشكل الذي يليق أو ينبغي أن يليق بالإنسان في القرن الواحد والعشرين .
والدعوة إلى (الثقافة الثالثة) لها مبرّرات منطقيّة تفيد بأنّ العلم – خاصّة في ذراه العالية الحديثة – لم يعد معبّراً عن إدراك بدهيّ بل صار مرتبطاً بأسلوب خاصّ في التفكير يناقض التفكير البدهيّ الذي تكثر احتمالات ارتكابه أخطاء ضخمة عند تطبيقه على مشاكل تحتاج إلى نظام تفكير كمّي صارم كما في مجال العلوم . وقد صادق على هذه الملاحظة بالرأي والفعل كثيرون ممن ينتمون إلى العلم والثقافة العلميّة .
حدة البصر ودقَّةالبصيرة
ويشرح الأستاذ محمود دور تلك الثقافة فيقول: إنّ نشر الثقافة العلميّة يشكّل مساهمة في صقل وإرهاف الإنسان بفعل المعرفة .
كما أنّ وعيه بالعالم الذي يعيشه زماناً ومكاناً يزيد من حدّة بصره ودقّة بصيرته في الحركة نحو مواقع جديدة ورفيعة في الحياة المعاشة . يضاف إلى هذا التأثير الفرديّ تأثيرات عامّة. إذ تمنح الثقافة العلميّة بصيرة مستقبليّة , منطقيّة التتابع .
استثمار الثقافة في التنمية
أمّا عن استثمار الثقافة العلميّة في التنمية الإنسانيّة فيوضح المحاضر نقشو أن هذا الاستثمار تفوق عوائده أيّ استثمار آخر لأنّها تنظر إلى المستقبل عبر براعم الحاضر مباشرة , ولا شكّ أنّ الشاب الصغير المزوّد بالثقافة العلميّة منذ نعومة أظفاره يكون قادراً على اختيار مجال التخصّص الذي يتلاءم ومواهبه وقدراته الخاصّة , فيحدّد اتجاهه بشكل أصوب ، ويكون عطاؤه أنجح , ومردوده أكثر اتّساقاً ، وعلى مجتمعه أوفر عطاء وإنتاجاً , وأرفع قيمة .
له سحر الفن ذاته
العلم الحديث مدهش ومليء بسحر يشبه سحر الفنّ , حتّى أنّ هناك من يعتقد أنّ الإبداع العلميّ والإبداع الفنيّ لهما طبيعة خلّاقة واحدة , لأنّهما ناتجان عن الخيال الإنسانيّ.
ولا يختلف اثنان حول ما قيل ، لكنّ التحسّب والتحذير هو من الاكتفاء بالثقافة العلميّة مصدراً واحداً وشاملاً للثقافة , فهذا وإن أغنى العقل العلميّ المعاصر قليلاً أو كثيراً فسرعان ما يرتدّ على نفسه بمظاهر الإفقار العقليّ نتيجة الاختزال الثقافيّ هذا .
وكذلك فالمبالغة المفرطة في تقدير دور (الثقافة الثالثة) إهدار لحكمة التطوّر , بل التطوّر العلميّ نفسه , فالتاريخ الثقافيّ – وضمنه تاريخ العلم – يخبرنا أنّ ثقافة الأدب والفنّ والمعرفة الإنسانيّة بشتّى ألوانها كانت ممهّدة غالباً لظهور طفرات في مجال الاكتشافات العلميّة وتطبيقاتها .
فلتكن (الثقافة الثالثة) هدفاً من أهداف النهوض المأمول , لكنّها ينبغي ألّا تكون الشكل الوحيد من أشكال الثقافة المطلوب إعلاء شأنها . فالثقافة طيف واسع من الألوان , ينبغي أن يبدأ بالرقيّ والجمال , ويظلّ يطمح إليهما , ومن ثمّ لا يهمل الإنسانيّات , فهي ليست فقط شرطاً من شروط حدوث النهضة العلميّة وغير العلميّة , بل هي صمّام أمان حتى يبقى لأيّة نهضة وجهها الإنسانيّ , وبالتالي جدارة استمرار هذه النهضة في الحياة الفاعلة لمصلحة البشريّة , ولأطول وأفضل وقت ممكن .
ميمونة العلي
المزيد...