يقول الكاتب الفلسطيني «طلعت سقيرق» بمقالٍ قيّمٍ بجريدة «الأسبوع الأدبي» السورية: «أعترف، ثمّ أشهد، أنَّ الكتابة دخولٌ في المستحيل، وغرَقٌ في الوجع، الذي لا يرحم»! وكان الشاعر السوري المعروف «أدونيس»، قد رفع ذات يوم نداءً قريب الشّبه، دعا فيه «إلى كتابة نصّ، يتجاوز الأجناس الأدبية»! السؤال بهذا السّياق: هل كتابة (القصة القصيرة جدّاً)، هي تجاوزٌ واختلافٌ، ووجَعٌ ومُستحيل؟ عليه، فإنّ مصطلح «ققج»، إنّما يشير إلى «القصة القصيرة جدّاً»، كما تعارف على ذلك كثرة كاثرة منْ متابعي هذا الفنّ الحديث المُسْتحدَث! والـ «ققج»، إنّما هي، شكلٌ من أشكال القصة القصيرة، بل هي «قصة قصيرة»، قبل أيّ شيءٍ آخر، ثمّ ألحقوا بها لفظة «جدّاً»، و(هذه الـ «جدّاً»، لا تجعلها بحالٍ من الأحوال مُستقلة الشخصية، فريدة الشكل، بل إنّ الموضوع الذي تعالجه، وتقتحم بوّابته، يفرض هذا العدد الضّئيل من الكلمات)، على حدّ قول أحدهم! بمعنى أوضح، أنّ مضمونها أفرزَ شكلها، كما يحدث عندما تُقطّع «قصة قصيرة» لمقاطع عدّة مُرَقّمة! عليهِ، يخطىء عُصْبةٌ من المشتغلين بحقل الأدب، حين يحكمون على أنّ (الـ «ققج»، هي جنسٌ أدبيٌّ مُستقلٌّ بذاته)! الحقَّ، إنّها «تنضوي تحت راية القصة القصيرة العاديّة»، حيث لا يوجد ما يؤكد بشكل فنّي وموضوعي وعلمي وقطعي استقلاليّتَها! استناداً إلى ما وردَ، فإنّ الـ «ققج»، إمّا أنْ تظلّ «قصة قصيرة عاديّة مُكثّفة»، أو أنْ تجنحَ نحو «الخاطرة القصصيّة».. بالحالتين، فإنّها تبقى شكلاً منْ أشكال المحاولات التجريبية، بإطار القصة القصيرة، بهذا تشبه لِحدٍّ بعيد، أو متماثل «قصيدة التفعيلة»، التي كانت بِأُسِّها ومُنطلقها محاولة تجريبية، تهدف لتطوير «القصيدة العمودية»، لكنّها ظلّت «قصيدة»، وظلّت «شعراً»، وليس فنّاً آخر، أو جنساً أدبيّاً جديداً! وما الـ «ققج» التي تُكتَب اليوم بتقنيّةٍ مُدْهِشَة، بأقلام غيرِ عددٍ من الكتّاب والأدباء العرب، إلا ضرباً منْ ضروب التطوّر الذي لحق «القصة القصيرة» عبر السّنين، وانعكاساً لتداخل إشكاليّة القصة القصيرة الرّاهنة، مع مقتضيات ما يُطلَق عليه «عصر السّرعة، والاختزال، واللهاث وراء اقتناص اللحظة اللمَّاحَة»! وها نحن بصدد مُعلّمة، تنوّه لظهور ظاهرة أدبية جديدة وهي الـ «ققج»، ومريدُوها كُثُر، على أنْ تدخل في سبرٍ نوعيّ للأجناس الأدبية السائدة! وللتوضيح، فإنّ قامة الـ «ققج»، المُفصّلة على مَقاسَي صفحة صغيرة، أو أسطر قليلة، لتعجز عنْ أنْ تشكّل مُبرّراً كافياً لاستقلاليّتها، كجنسٍ أدبيٍّ من الأجناس المعروفة، لكنَّها بِرُغم قِصَرِ قامتِها، وقلّة عدد كلماتها، فإنّها تستطيع القيام بدورٍ فنيّ بارع، «بالتكثيف، والّلمح، والوَمْضَة، والسُّرعَة، والإضاءة الخاطفة»، لعناصر القصة القصيرة العاديّة، المتمثلة بـ «الحدث، والبيئة، والشّخصية، والصّراع، وبرَاعة القصّ»! والأكيد، أنّ (هذه العناصر مجتمعة، لا تستطيع مَنْحَ الـ «ققج» قرارَ الانفصال، على حدّ قول الكاتب السوري المُتألّق «إسكندر نعمة»، بل تظلّ هذه العوامل مجرّد سماتٍ بعملية القصّ والإبداع المُلازِمَين لقصة قصيرة، لا تتجاوز صفحة واحدة، أو أسطراً قليلة، أو كلماتٍ قليلة! بهذا الإطار، يقول القاصّ السوري «نبيل جديد»: (القصة القصيرة هي هي، طالَتْ أم قصُرَت، إشكالاتُها بالحالتين واحدة: سَرْعان ما تنفلت، لتقعَ بِشَرَكِ انتمائها لأنواعٍ أخرى من الكتابة: مقالة، خاطرة، وجدانيّات .. فلنعاملْها معاملة واحدة، بحضور لاحقة «جدّاً»، أو غيابها، ولنتذكّر أنّه كلّما أردْتَ الإقلالَ من الكلام، زادَت الصّعوبة، وتعدّدت المخاطر، لاضطرارِكَ للبحث عنِ المعنى الأدَقّ)! السّؤال الأبرز بهذا السّياق: ما «المعايير الفنية» التي تعتمد عليها الـ «ققج»، تلك التي تنسبها إلى القصة العاديّة الأمّ؟ الجواب:
التّكثيف والإيجاز.
المُفارقة « أيْ القَفْلة غير المُتوقّعَة» ..
الانفتاح.
الحَدَث القصصي.
اللغة، والإيقاع الشّعري، والرّوح الشّاعريّة ..
التّرميز!
عليه، فإنه في القصة عامّة، ينبغي أنْ تكون كلّ مستويات القصّة «تقنيّاً وأسلوبيّاً ونبرةً» مُتماسكة، بمعنى أنْ نتقدّم ببنائها ومِعْمَارِها القصصي بتؤدةٍ وتمهّل، كما تفعل العنكبوت، وإذا فُقدت بعض المسارات، أو ضلّت الأحداث طريقَها، ينبغي ألّا تكون على حساب عناصر البناء، على وجه البتّ؛ فنحن بِحاجةِ لبناءٍ جيّدٍ مُتعاضِدٍ، لنتمكّن منْ ملءِ الثّغرات بهدوء؛ ولا شكّ، أنه عندما يخلو العملُ الإبداعيُّ من «الحَدَث»، تتوقّف عمليّة القصّ، بل وتترهّل وتتشظّى؛ وإلى جانب «الحدَث»، تبني القصة كيانها على عواملَ أخرى أساسية، «كالصّراع، والشخصية، والزّمان والمكان، والحوار»..! وبالنظر إلى عوامل بناء الـ «ققج»، فهي ذاتها المُتوافرة ببناء القصة القصيرة العاديّة، ومِعْمارِها الفنّي الإبداعي! أشير بهذا الصّدد، إلى أنَّ هناك كتّاباً، لهم حضورهم المشهود بكتابة الـ «ققج» بسورية: «وليد إخلاصي، وليد معماري، فلك حصرية، أحمد جاسم الحسين، طلعت سقيرق، نبيل جديد، مروان المصري، محمد توفيق السّهلي ..» إلخ! ختاماً، فإنّ هذا النوع من فنّ الـ «ققج»، الذي لا يزال بطورِ التّجريب، ليس من السّهل أنْ يأخذ حيّزاً بتنويع الأجناس الأدبية، بل مستقبُله محفوفٌ بالعراقيل والمشقّات والصعوبات، يتطلّب الجهد والصّبر والأناة من الكتّاب المُبدِعين بمضماره، ليلحق بمسارِ رَكْبِه، بنوعيّة مميّزة من الأجناس الأدبية!!
وجيه حسن
المزيد...